Search
Close this search box.

حداثة القصيدة في ديوان “أمطار تسقط خائفة” للشاعر حسين الجار الله

حداثة القصيدة في ديوان "أمطار تسقط خائفة" للشاعر حسين الجار الله
  لفظة "حداثة" تتجاوز أطر الزمان والمكان، وهي مرتبطة بكل ما هو جديد يحمل صفات المعاصرة والمغايرة عن القديم، وكلّ محدث ينتمي لحداثته على وفق الشروط الزمكانية...

لفظة “حداثة” تتجاوز أطر الزمان والمكان، وهي مرتبطة بكل ما هو جديد يحمل صفات المعاصرة والمغايرة عن القديم، وكلّ محدث ينتمي لحداثته على وفق الشروط الزمكانية المحيطة به، ويبقى محدثاً من زاوية النظر هذه وإن تجاوزته العوامل التي انتجته، إذاً نحن بأزاء حداثات متعددة تسود أبرزها لتكوّن الوعي الشعري للنصوص التي لم تُكتب بعد، لتهيّء الآتي لصنع حداثته، ومن الضروري إخراج الزمان والمكان من معادلة الحداثة الصعبة، وربطها باللحظة المتحركة التي تتجه بعمق نحو الماضي وتنطلق في الوقت نفسه نحو المستقبل، فمفهوم ((اللحظة الحداثية ينفي الثبات ويثبت الصيرورة والتحوّل))[1].

وهذا المعنى للحداثة أكّد عليه أدونيس، ويرى أنها عابرة لحدود الزمان والمكان في قوله: ((كلّ نص يقاوم الموت ويخترق شروط الزمان والمكان موجّهاً نفسه نحو المستقبل، فهو ينتمي إلى الحداثة))[2]، فالحداثة الشعرية على وفق هذا لا تنتمي لحقبة زمنيّة معيّنة، إنما هي مقاييس فنيّة تجعل من النص الأدبي خالداً، فمن الممكن أن تُوصف نصوصاً قد كُتبت قبل مائة سنة أو مائتين أو أكثر بأنها تنماز بالحداثة، وفي الوقت نفسه هناك نصوص معاصرة لكن لا يمكن ان نصفها بالحداثة، فالنص الحداثي هو الذي يمتلك أسرار خلوده.

ويرى بعض النقاد أن للشكل أثراً في حداثة النص الشعري، ولا أتفق مع من يرى ذلك، فالنصوص الشعرية تخلق إبداعها داخل النص بأي شكلٍ كانت، ليس المهم الشكل، بل المهم في ذلك قيمة النص التي تنبع من جماليته بوصفه فنّاً لغوياً ومن رسالته كونه يُرمّم مساحات روحية شاسعة تعاني من فقدان التوازن الجمالي والروحي.

والمغايرة وسلوك طرق جديدة من أجل الإبداع تبقى مهمة صعبة جداً لا يوفّق لها جميع الشعراء، وهي تدخل في صميم الحداثة فـــ((الحداثة أن تكشف دائماً طريقة جديدة للسباحة في بحار جديدة))[3].

حداثة المزاوجة بين الأشكال الشعرية.

وديوان “أمطار تسقط خائفة” الصادر في 2009 بطبعة خاصة للشاعر حسين الجار الله، قد تجاوز مفارقات عدّة تتشاكس مع بعضها في وعي النقاد والشعراء على حدّ سواء، فلم يقلق الشاعر من هاجس الشكل الشعري، فنجد قصيدة النثر إلى جنب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، وبذا أطلق رؤياه العميقة اتجاه الشكل دون أن يدخل في جدال عقيم أو ضوضاء فكرية، وأعلن من خلال القصيدة أن الشكل ليس مهمّاً في قاموسه الشعري، إنما الشعر هو الأهم بأي شكل كان، وهو بهذه الرؤية شرع طريقاً واعية للحداثة متجاوزاً الجدال العريض حول الأشكال الشعرية، ومن هو أكثرها قدرة على تمثّل الابداع.

فأول قصيدة في الديوان هي (آخر ما قاله الغفاري للربذة)، وهي تنتمي لقصيدة النثر، فاستطاع الشاعر أن يتماهى مع المنفى القسري للغفاري/الرمز ليجعل الحياة/منفى تتأصّل في وعيه بانتظار التسامي الروحي لمغادرة هذا السكون المفرط في الحياة، يقول الشاعر:

((…أوّاه أيتها المفجوعة باللانهاية

تتناسل فيك ِ الحقائب المسكينة

ونوافذك الخرساء ترسم التثاؤب

يا صديقة القلوب المعلقة

على حبال المشنوقين بالحنين…))[4]

الحنين المفجوع والنوافذ الخرساء والقلوب المعلّقة كلّها تنتظر أن يخرج الشاعر من دائرة المنفى ليعانق وجوده اللانهائي.

بعد هذا النص مباشرة نقرأ قصيدة (أقمارٌ لا تؤمن بالجاذبية) وهي قصيدة عمودية تعتمد نظام الشطرين الخليلي، لكن المفارقة أنه لا تجد اختلافاً في النسق الشعري بين القصيدتين، كلاهما ينطقان باللغة نفسها، وبالإنكسار والتوجّس نفسه، يقول:

((…على كفّي قد سكبوا رحيلا ً

فيمنى سكة …. يسرى قطار ُ

سُكارى لم تصدقهم مرايا

وحارت ْ كيف تعكسهم وحاروا

أقاموا في مرايا من ذهول ٍ

تراودها الطفولة والقفار

تلاشوا ……كم مشيت ُ….وكان حلما ً

فأوثق َ يقظتي ليل ٌ سوار ُ

أنا ياحرب ُ من آويت ُ صوتا ً

وماءً لا تترجمه الجرار…))[5]

يعمد الشاعر إلى خلق عوالم خاصّة به ويمتهن الغياب معها في طقوس الذهول على حافة الحلم، فلم نجد ان هناك فرقاً في تناول الشاعر لرؤيته الخاصة، سواء أكان الشكل الشعري نثرياً أم عمودياً، كلا الشكلين قادر على احتواء تهويماته في عوالم الجنوح نحو الانعتاق، وبهذا استطاع الشاعر أن يصل إلى الحداثة بتجاوز محنة الشكل الشعري، فالحداثة عنده لا ترتبط بالشكل إنما بالمعنى وآليات التعبير عنه ببراعة لغوية غير مسبوقة.

 

حداثة الأساليب التعبيرية الشعرية.

الشاعر كان واعياً في اختياره للأسلوب الشعري الذي يعبّر فيه عن تجربته الشعورية، وقد اعتمد في ذلك على الإيجاز الشديد في الخطاب وعلى أسلوب الحوار والأسلوب القصصي، وهذه هي أهم ما يميّز حداثة الأسلوب التعبيري الشعري.

من ذلك قول:

((…ملعون ٌ هذا الليل

يوقظ أشكال الموتى

أو يغزل قلب امرأة ٍ

تستجدي الحب من الشباك))[6].

على قلّة ألفاظ هذه القطعة الشعرية فإنها امتازت بالإيجاز والتكثيف الشديد للدلالة، فضلاً عن الإدهاش الذي يجعل المتلقي هائماً يبحث عن معنىً لا يمكن القبض عليه بسهولة، فكل معنى ينشطر إلى أكثر من معنى وهكذا تتوالد رؤى وإيحاءات ليس بالمستطاع الإحاطة بها، فالإيجاز في الخطاب الشعري من سمات النصوص الشعرية للجار الله، فليس هناك فائضاً لغويّا مقابل تشظّي الدلالة وتوسعها، يقول الشاعر:

((حان الوقت

لأتعلم الانهيار المحبب للأنهار

أمزق ملابس أرواح   الغرقى

انطح برأس ٍ مستحيل ٍ جدار غربتي…))[7]

كأن اللغة تتلبّس اللحظة الشعورية للشاعر، فتصبح قلقة مسكونة بالتيه والتمرد والثورة، لغة متفجّرة لا تستطيع حصر رغبتها بالبوح، وفي الوقت نفسه هي تبوح بكل شيء، ألفاظ قليلة تشعّ معانياً تتماهى مع حالة الشاعر النفسية لترسم لنا دواخله الغريبة كأمواج متلاطمة.

واعتمد الشاعر أسلوباً للحوار يختلف عمّا سار عليه الشعراء، الحوار المقترح مع الآخر، ونقل الحوار المباشر إلى حوار متخيّل يعتمد على المنولوج هو حوار نفسي في الأصل، حوار من أجل الكشف عن دواخل محاوره بما يراه هو، وما يريده، وسمح هذا للشاعر بأن يقدّم رؤيته الخاصّة محافظاً على طقوس الكتابة الشعرية عنده، يقول:

((…وجدتك ِ

كنت ترددين :

–     الريح  وظيفة متعبة –

وكنت اردد :

–     ادخلي ……ادخلي الحياة –

لمَ  أنت حزينة

كرعاة  يوزعون أيامهم على مواشيهم

كنت تحملين مسافة طويلة من الطفولة

وصرختين

وبوصلة

والآن ……..بعد كل هذا

اغسلي أحلامك ِ

لقد اتسخت في أسفارك ِ الكثيرة

الآن تحتاجين :

مسافة طويلة من القبلات الشتوية

وكوب شاي

وحمامة…))[8]

لقد قالت كلّ شيء على لسانه هو، وهو أيضاً قال ما يريده منها أن تقول، وهذا الحوار أسهم في جعل أكثر قصائد الجار الله تتسم بالحداثة، وتنتمي لشعرية الاختزال، فليس هناك مسافة فاصلة بينه وبين لحظة التوهّج، فكل شيء صادم يكسر أفق الوقع عند المتلقي، فـ “الريح وظيفة متعبة” فبين التنقل المستمر وعدم الاستقرار والقلق، كان يدعوها إلى أن تدخل الحياة، وصرخ بها أن تغسل أحلامها المتسخة من كثرة السفر، إنه حوار في مكان غير موجود يمثّل الحد الفاصل بين الشعر واللاشعر، لكنه موجود في قلب الشاعر وفي قصيدته.

أما الأسلوب القصصي فهو أداة تعبيرية مهمّة في شعر الحداثة، وقد أخذ الشعر هذه التقنية من القصة التي تنماز به، وهي تعتمد على تنمية الحدث مع اختيار شخصيات مناسبة له، ثم الوصول إلى الذروة، بعدها يكون الحل لتنتهي أزمة الحدث المتخيّلة.

واقتبس الشعراء هذا الأسلوب بحذر، ونجح الشاعر الجار الله في ذلك، فالسرد القصصي في أغلب قصائدة كان موحياً شعرياً، ولم يتماشَ مع السرد القصصي الذي يميل للإطناب ووصف الحدث والتوسع في العبارة، فكان السرد عنده مركّزاً يُوحي ولا يستطرد، يقول:

((…في ذاك الليل البوهيمي

حدثني المجنون الهائم في الصحراء

إذ قال بحزن الدرويش :

ورأيت ُ بويب

يحفر في قلب السياب ويبكي في جوف الليل

وسمعت ُ الذئب المسكين يصيح :

متهم ٌ للآن بيوسف أين أنام

ورأيت النعمان بن المنذر

كان فقير الحال

يسكن ُ في أسوء فندق

وهربت ُ بعيدا ً

حين رأيت

رأيت  ال…….))[9].

اعتمد السرد القصصي عنده على ما يراه الشاعر في رحلته من الحاضر إلى الماضي، في تلك الصحراء كان المجنون رفيق مخيلته يحدثه عن السياب ويوسف والنعمان بن المنذر، وكل منهما له محنته الخاصة، وكان الجار الله مسافراً معهم يُطعم روحه هذا الهروب العظيم باتجاه الحقيقة، لكن كان خوفه أعظم فسكت عن بيان رؤيته الأخيرة، فاختار الهروب، لكن إلى أين؟ هذا هو سرّ المعنى المسكوت عنه والذي عبّر عنه بهذا السرد القصصي المدهش.

حداثة الصورة الشعرية. 

من سمات الصورة الشعرية الحداثية التكثيف والغموض والتضاد – أي الجمع بين المتناقضات –  والتجسيد والتشخيص، ففي النقد الحديث تجاوزت الصورة الشعرية ما كان معروفاً عنها في القديم من اعتمادها الكلّي على المجاز والتشبيه والاستعارة، فأصبحت تشكّل اللغة الشعرية التي تكون ((مشحونة بالتصوير، بدءاً من أبسط أنواع المجاز وصعوداً إلى المنظومات الأسطورية الشاملة العامة))[10].

ونلحظ أن الصورة الشعرية عند الجار الله كانت أداة تعبرية مهمّة، من خلالها عبّر الشاعر عن كينونته وحالاته الشعرية المختلفة، فكانت الصورة عنده مستحدثة ومكثّفة جدا لتشعّ دلالاتها المختلفة على عموم النص الشعري، من ذلك، قوله:

((…كيف هبط وحي الذبح عليك

يا نبيا ً من تعب…))[11].

الاستفهام المجازي كان مركز هذه الصورة الجميلة، فالشاعر يستفهم عن الحال التي كان عليها وحي الذبح حينما هبط على نبي التعب، صورة صادمة لكنها موحية ومؤثرة، ففي هذه الحياة يصعب على الأنبياء العيش بسلام، فأرواحهم النقية ثقيلة على الوجود، لذا هم دائماً مهمّشون من سلطة الواقع المرير الغارق بالماديات وما يُلتمس بالحس، بعيداً عن روح الحقيقة وشفافيتها.

ويقول الشاعر في صورة أخرى:

((علماء الجغرافيا جميعهم

لم يعلموا بأن  الأنهار

تجري خائفة

من شيء ما…))[12]

هذه الصورة القائمة على التجسيد تؤكّد أيضاً على روحية هذا العالم، فالأنهار كأنها بشر، تجري خائفة من شيء ما، والشاعر يريد منا أن نشعر بكل شيء من حولنا، أن نتفاعل معه ونشعر بوجوده بشكل مختلف، هذا الخوف الذي يتحكم بالبنية العميقة للديوان أجمع أصبح نقطة جذب للصور الشعرية وتشظي دلالاتها.

ويقول الشاعر ايضاً:

((…كان يشعر بأن للمطر رأي ٌ مختلف عن رأيه

في صلاة تهرب من قديس

هذا الرجل

قادته حياة الزقزقة السرية

لذكرى واحدة

هي ذكرى وقوفه منتصف فكرة الرصيف…))[13]

صورة مركبة تتحد لتجعل من النص الشعري غني بالدلالات المتولدة من خلف اللغة المضمرة، اللغة الظاهرة تضمر عمقاً شفيفاً، فرأي المطر وهروب الصلاة من القديس ووقوفه في منتصف فكرة الرصيف، كل هذا يشير إلى رغبة الشاعر بالكشف عن إيهام المظاهر، فالقديس رمز التدين تفر منه الصلاة ولا تقبل به ممثلاً لها، والمطر الذي يسقط خائفاً يرى أن الهامش هو المعبر الحقيقي عن رغبة الحياة الحقيقية، ففكرة الرصيف هي الممثل لهذا الهامش، فالشاعر اعتمد الغموض الفني والتشخيص في بناء صوره المعبرة عن اعتقاد روحه وعمق ايمانها بالمهمشين.

ويقول أيضاً:

((…حيث لا نهار ٌ يُطاع

ولا ليل ٌ يُعصى

افهم الجماد

وحياته النحيلة

كعاشقة مسيحية…))[14].

اشترك في رسم هذه الصورة الشعرية التضاد بين نهار/ ليل و يطاع/ يعصى، وأيضا التجسيد بوصف الجماد بالنحول، وتشبيه الجماد بعاشقة مسيحية، فالخوف جعل الشاعر يحسد الجماد الذي لا يشعر بتعاقب الليل والنهار ولا يدرك الطاعة والعصيان وهو كعاشقة مسيحية نحيلة لا ترى الا عاشقها ساكنة وهادئة لكن ثورتها كامنة فيها.

لايمكن ان تكون هذه القراءة قد استوعبت بأي حال من الأحوال الحداثة بجوانبها كافة، لكنها قراءة جاءت على استحياء لبيان الحداثة في ديوان الشاعر المبدع الجار الله، عسى أن تكون قد ارتقت لتكشف بعض أسرار حرفه الغني بالجمال.

  1. الابهام في شعر الحداثة، العوامل والمظاهر وآليات التأويل، عبد الرحمن محمد القعود، سلسلة كتب ثقافية شهرية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1990، ط!: 83.
  2. ظاهرة الغموض في الشعر العربي الحديث: عبد العليم إسماعيل علي: 110 .
  3. أسئلة الشعر ، حوارات مع الشعراء العرب، جهاد فاضل، الدار العربية للكتاب، (د.ت): 231.
  4. أمطار تسقط خائفة: 8.
  5. الديوان: 11.
  6. الديوان: 15.
  7. الديوان: 29.
  8. الديوان: 85 .
  9. الديوان: 71.
  10. نظرية الأدب، رينيه ويليك وأوستن وارين، ترجمة: محي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- لبنان: 28.
  11. الديوان: 77.
  12. الديوان: 73.
  13. الديوان: 79.
  14. الديوان: 99.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *