مقدمة
اعتمد حزب البعث في العراق، منذ استلامه السلطة عام 1968، سياسة صارمة تهدف إلى السيطرة المطلقة على المجتمع، ومن أبرز أدوات هذه السيطرة القضاء على الفكر المستقل والمفكرين المعارضين. فقد رأى الحزب في الفكر النقدي تهديدًا مباشراً لسلطته الأيديولوجية، فعمل على تقييده بوسائل مختلفة، شملت القمع المباشر، وتكميم الأفواه، وتحريف المناهج التعليمية، وتسييس المؤسسات الأكاديمية والثقافية.
القمع المباشر للمفكرين
منذ الأيام الأولى لحكم البعث، شنت السلطات حملات قمعية ضد كل من يُشتبه في معارضته للحزب أو يمتلك فكراً مغايراً لخطه السياسي. وشملت هذه الحملات اعتقالات تعسفية، وتعذيباً، وإعدامات طالت أساتذة جامعات، وأدباء، وصحفيين، وعلماء. كان أبرز هذه الجرائم اغتيال المفكرين الذين رفضوا الانضمام إلى الحزب أو انتقدوا سياساته، مثل المفكرين اليساريين والقوميين المعارضين والإسلاميين الذين لم يوافقوا على احتكار البعث للفكر السياسي.
تسييس المؤسسات التعليمية والثقافية
عمل البعث على تحويل الجامعات والمدارس إلى مؤسسات دعائية تخدم توجهاته، حيث أُجبر الأكاديميون على الانضمام إلى الحزب، وأُبعد أو سُجن من رفض ذلك. كما أُعيدت صياغة المناهج الدراسية لتتماشى مع الفكر البعثي، فتم التركيز على تمجيد الحزب وقيادته، وتغييب التيارات الفكرية الأخرى. ولم يقتصر الأمر على المؤسسات التعليمية، بل امتد إلى النقابات والاتحادات الثقافية التي أصبحت أدوات بيد السلطة لمراقبة الفكر وتوجيهه.
قمع الصحافة وحرية التعبير
لم يكن للصحافة في عهد البعث أي مجال للاستقلالية، فقد جُعلت جميع الصحف والمجلات تخضع لرقابة صارمة، وتم منع أي منشورات لا تتماشى مع أيديولوجية الحزب. كما مُنعت الكتب التي تحتوي على أفكار ليبرالية أو ديمقراطية أو إسلامية غير متوافقة مع رؤية الحزب. ولم يكن الإنترنت موجودًا آنذاك، لكن حتى الوسائل التقليدية للاتصال الثقافي كانت تخضع لرقابة شديدة.
تصفية الحركات الفكرية المعارضة
واجه البعث التيارات الفكرية المعارضة بوحشية، سواء كانت هذه التيارات إسلامية، أو شيوعية، أو قومية غير بعثية. فخلال السبعينيات والثمانينيات، أُعدم أو نُفي الآلاف من المثقفين المنتمين إلى الأحزاب اليسارية والإسلامية، كما سُحقت محاولات تشكيل تجمعات فكرية غير خاضعة للحزب.
نتائج هذه السياسة
أدى النهج القمعي لحزب البعث إلى تجفيف منابع الفكر الحر في العراق لعقود طويلة، وخلق جيلاً من المثقفين إما خاضعين للسلطة أو مهاجرين أو ملاحقين. كما تسبب في تراجع الإبداع الأدبي والفكري، حيث أصبح الإنتاج الثقافي محصورًا في الإطار الذي يسمح به الحزب. وبعد سقوط نظام البعث عام 2003، كان العراق يعاني من فراغ فكري كبير، بسبب إقصاء العقول المستقلة لعقود.