الاستشراق تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافاتهم وتاريخهم اي انه واقع معرفي مارسته أوربا على الشرق، يقول المستشرق (جويدي) :(ان الاستشراق بناء على الارتباط المتين بين التمدن الغربي والتمدن الشرقي)، ووصفه ادوارد سعيد في كتابه المهم (الاستشراق) بأنه :(اسلوب غربي للسيطرة على الشرق وامتلاك السيادة عليه)، ويقول الدكتور مشتاق بشير الغزالي في كتابه :(القرآن الكريم في دراسات المستشرقين) هو:(التخصص في دراسة الشرق سواء أكانت الدراسة تتعلق بعلوم المجتمع الشرقي ام بفنونه او تراثه او تاريخه او ديانته او عاداته مع ضرورة توافر أداة الدراسة وهي اتقان اللغات الشرقية) ص٢٣، ويسمى الدارس الغربي لتراث الشرق مستشرقا، ولاتتحقق هوية المستشرق المعرفية كما يرى (اربري) :(مالم يكن متبحرا في لغات الشرق وادابه)، فالمستشرق هو الأكاديمي المتخصص الذي أتقن لغة شرقية ما او اكثر ودرس احد علوم الشرق، عندئذ يمكن عده مستشرقا، والمستشرقون عند دراستهم لمعارف الشرق وعلومه قدموا جهدا بارزا فيها وخاصة في مجالات الدراسات القرآنية، فقد نشروا جملة من الكتب تحقيقا وفهرسة وتدوينا، في القراءة والتفسير وعلوم القرآن وقد جاءت هذه الذخائر محققة في اغلبها على الوجه الاكمل مما يكشف لنا صدق المعاناة والصبر والجلد والأناة في إيصال النص للملتقي كما تركه مؤلفه وكما كتبه مصنفه، ولكن ليسوا كلهم هكذا إذ ان بعضهم اساء فعلا ولم يراع الأمانة العلمية.
والكتاب الذي أقدمه للقارئ العزيز في هذه الحلقة عنوانه (اشكالية فهم النص القرآني عند المستشرقين) للباحث الأستاذ الدكتور عادل عباس النصراوي بطبعته الأولى /٢٠١٦، بيروت من القطع المتوسط ب ٢٥٠ صفحة، والدكتور النصراوي استاذ في كلية التربية الأساسية /جامعة الكوفة، مكافح في مجال العلم إذ ان شغفه باللغة العربية والدراسات القرآنية جعله يكمل دراسته للغة العربية بعد أن تخرج في كلية الهندسة، وأخذته لغة القرآن وعلومها وأصبح متمكنا منها ومختصا بالدراسات القرآنية، يقول الباحث النصراوي في مقدمة كتابه :(لقد شغلني ماكتبه المستشرقون حول القرآن الكريم والردود التي حاولت الحد من غلوائهم، لما فيها من تحامل كل طرف على الآخر، وقد خرج بعضهم عن لياقات البحث العلمي واصوله التي تاخذ بأيدي الباحثين إلى الطريق الصواب، فتماهت بين اسطرهم الحقيقة وغشيها ما غشيها، ولعل مرجع ذلك إلى طبيعة المنهج الذي استعمله المستشرقون في دراسة التراث الإسلامي الذي اعتمد على مفردات البيئة الغربية التي تختلف كثيرا عن مجريات المجتمع العربي خاصة والإسلامي عامة وطبيعتهما التي جرت وفق تعاليم الإسلام الحنيف) ص٩، ويضيف الدكتور النصراوي في المقدمة نفسها :(فيما كانت طبيعة المجتمع الغربي بعد عصر التنوير الذي انبثق من بين مفرداته وطروحاته طبقة المستشرقين، كانت طبقة تعادي الدين بسبب من تصرفات الكنيسة التي سيطرت على مقدرات الشعوب الغربية المسيحية بالخرافة والدجل وغيرها من الطرق الملتوية، فهاج الناس على تعاليمها ونبذوا فكرة الانتماء لها فتحول المجتمع الغربي إلى مجتمع لاديني في أغلب طبقاته ومكوناته العرقية واتجه إلى البحث عن فكر يستطيع أن ينقذ هذه الشعوب من تلك الأوهام التي سيطرت عليهم زمنا طويلا، فظهر المصلحون ليقودوا ثورة فكرية وعقدية واقتصادية شاملة تاركة وراءها الدين والكنيسة الا في بعض مواقع في أوربا، في ظل هذه الظروف ولدت النهضة الأوربية وحملت مشعل التنوير إلى كل بقاعها، وعندما جاء المستشرقون لدراسة التراث العربي والإسلامي، كانوا يحملون معهم كل هذه الهموم والتوجهات فضلا عن الأهداف التي رسمت لهم او التي هم رسموها لأنفسهم، فكان لابد أن تفترق هذه المناهج والأهداف عما وجد في المجتمعات الإسلامية عموما والعربية خصوصا، فاصطدموا بكل ذلك التراث الذي بني على معتقدات دينية وروحية تحمل عبق الشرق وقيمه المخالفة روحا وعقيدة ومذهبا وسلوكا لكل توجهات الغرب المادية والدينية والعقدية التي انفلتت من قيود المجتمع القديم الذي عاشه الذين مضوا من آبائهم واجدادهم) ص١٠،
دراسة الدكتور النصراوي تالفت من تمهيد وثلاثة فصول ومن ثم مصادر ومراجع مهمة اعتمدها في دراسته هذه، ففي التمهيد درس الباحث (الإشكالية وتداعيات فهم النص) فيقول :(لما كانت المشكلة تحمل في اصل تكوينها أسس حلها، لذا لابد من استعمال الطرائق الصحيحة والمنهج الذي يوصلنا إلى مفاتيح الحل داخلها وذلك من خلال فهم النص) ص٢٠، وفي الفصل الأول يتحدث الدكتور النصراوي عن :(أساسيات فهم النص القرآني ومصادر دراسته عند المستشرقين) فيقول :(تعددت مشارب المستشرقين وطرقهم للولوج إلى دراسة النص القرآني والسنة النبوية المباركة، بتعدد ثقافاتهم وتوجهاتهم الفكرية والعقدية والعلمية، فكل مؤسسة استشراقية بل كل مجموعة من مجاميع المؤسسة الاستشراقية الواحدة كان لها سبيلها في دراسة النص القرآني خاصة، فربما تختلف او تتباعد عن بعضها ولما كانت المؤسسات الاستشراقية لها أهدافها الخاصة بها، فقد عملت وفقها في الكشف عن المضامين الحضارية للنص المبارك) ص٤٧، ويرى الباحث ان ثمة مسالك اتبعها المستشرقون في فهم القرآن الكريم منها :عدم الاكتراث باصالة التراث الإسلامي ويشرحه في نقاط عديدة :اولها المنهج المتبع في دراسة هذا التراث، وثانيها :الخلفية البيئية للمستشرقين بعد الحرب العالمية الأولى ومدى تاثرهم بالاتجاهات الجديدة التي نشات في العلوم الاجتماعية، والاشكالية التي يضعها الباحث في اتباع المستشرقين في فهم القرآن الكريم هي :عدم اعتمادهم على المصادر الإسلامية القديمة، وكذلك الانتقائية في الروايات والمصادر وكذلك النزعة العقلية المجردة في محاكمة قضايا القرآن الكريم، اما المبحث الثاني من الفصل نفسه فقد خصصه الدكتور المؤلف لمصادر دراسة النص القرآني عند المستشرقين فيقول فيه :(لقد صب المستشرقون والباحثون الأوربيون جل جهدهم على دراسة القرآن الكريم وما يتعلق به كعلوم القرآن والتفاسير فضلا عن دراسة السنة النبوية الشريفة، وقاموا بدراسة هذه المفردات دراسة معمقة، إذ انهم لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة الا واشبعوها دراسة وبحثا، بل قاموا بتحريك السكوت عنه عبر عصور الإسلام، واتخذوا من ذلك وسيلة للولوج إلى التراث الإسلامي والعب فيه من خلال افتراضاتهم وسوء نياتهم، فبنوا عليها كثيرا من النتائج التي تشوه صورة الإسلام والقرآن الكريم) ص٧٩،
ويعطي الباحث عنوانا للفصل الثاني هو (محتوى النص القرآني في فهم المستشرقين) ويبحث فيه محتوى النص القرآني من حيث النقاط الآتية :القصص القرآنية وأحكام القرآن الكريم في فهم المستشرقين وأثر التوراة والإنجيل والوثنية في أحكام القرآن في فهم المستشرقين، اما الفصل الثالث من دراسته يوضح الدكتور النصراوي فيه (لغة القرآن في فهم المستشرقين) ويحدد اوهام المستشرقين في لغة القرآن الكريم ومن ثم يشرح الادلة على عروبة ألفاظ القرآن الكريم المستوحاة منه، وكذلك الادلة على عروبة ألفاظ القرآن الكريم من اللغة العربية.
ومن خلال قراءاتي المتواضعة للاستشراق وما دونه المستشرقون من دراسات قيمة ومفيدة للقرآن الكريم وجدت أن الرؤية الاستشراقية للتدوين القرآني قد تالفت على ثلاثة انواع من القراءات قياسا بالقراءة الإسلامية، الأولى :القراءة التوافقية والثانية القراءة الاختلافية والثالثة القراءة التوفيقية، ولاريب في أن تعدد هذه القراءات واختلافها، يضمر أسبابا متعددة ومختلفة أيضا، فالتوافقية هي القراءة المطابقة للقراءة الإسلامية التي تؤمن بأن التدين القرآني منجز كتابي بامره (تعالى)، اما القراءة الاختلافية وهي التي لاتتفق والرؤية الإسلامية للتدوين القرآني إذ تقف على الجانب الآخر منها، اما القراءة التوفيقية وهي القراءة الاستشراقية المعاصرة التي اتخذت مسارا وسطا بين الرؤيتين الإسلامية والاستشراقية.
كتاب الأستاذ الدكتور عادل عباس النصراوي كتاب ماتع لمن يقرأه بتفحص ويحوي فوائد ومعلومات قيمة.