Search
Close this search box.

كاظم البياتي ـ شمس الجراح

كاظم البياتي ـ شمس الجراح
طالما راودتني فكرة الكتابة عن الكسالى ، الشعراء الكسالى ، وقد لا أكونُ منصفاً في وصفهم هذا فأظلمَهم .....

طالما راودتني فكرة الكتابة عن الكسالى ، الشعراء الكسالى ، وقد لا أكونُ منصفاً في وصفهم هذا فأظلمَهم . لذلك بدلاً من سمة الكسالى وهي فعلاً لفظة ظالمة ، سأقولُ : فكرة الكتابة عن المشاريع الشعرية غير المنجزة.

منذ أواخر التسعينات وحتى هذه اللحظة وأنا داخل المشهد الشعري النجفي أراقبه بجدية وأكوِّنُ عنه تصوراً يلازمني ما كتبتُ. قرأتُ من الشعر النجفي في عصوره الماضية عدداً وفيراً من الشعراء، شعراء هذه المدينة المهتمة بالشعر واللغة اهتماماً كبيراً .

طبعا لا أذهبُ أبداً خلف ما قاله الدكتور علي عباس علوان من أنَّ الشعرَ في النجف كالطعام والشراب ، وأقف مع تفنيد الدكتور طه حسين في (الشعر الجاهلي) على ما أذكر لمقولة أن العرب كلَّهم كانوا شعراء ، لأن في هذه المقولةِ مبالغةً كبيرة .

لكني مع هذا رأيتُ أن الاهتمام النجفي بالشعر له نسبة ممتازة ، ولأنها كذلك فمن الطبيعي أن تنجب أجيالاً من الشعراء ، ولأذكّر نفسي بقول الشاعر نزار قباني : إن سماء النجف تمطر في كل يوم خمسمئة شاعر .

مرةً قلتُ لأستاذي الشاعر السيد أحمد المحنا إنني مأخوذ بتجربة محمود درويش ، فقال لي : لا تنسَ يا مهدي أن الساحة العربية تُخرج لنا بين حين وآخرَ شاعراً كبيراً بيدَ أن النجف تخرج لنا بين حين وآخرَ مدرسةً شعرية. قد يكون هذا القول حقيقياً لو استطعنا أن نشرّحَ الشعر الموزون وفق طرقه الفكرية والرمزية والبلاغية وأساليبه في صياغة الكلام وتفجير المعاني واستفزاز اللغة (داخل الوزن طبعاً) لو تمكنَّا من ذلك ربما سنكشف عن وجود مدارس فعلية للشعر في النجف. وإلا فإنّ هذا القول ينطبق على البصرة أكثر من النجف ، لأن البصرة أخذت بيد الشعر في أواسط الأربعينات إلى مناطق مشعة وجديدة وربما غريبة .

أعود إلى النجف ، وبعض شعرائها الذين بدأوا بدايات هي بمستوى النهايات، أعني أنهم حلقوا بعيداً في سماء الشعر ثم ما لبثوا أن اختفوا.

تذكرتُ الآن قولاً جميلاً لا يخلو من الخبث المحبب للشاعر السوري عبد القادر الحصني رداً على سؤال وُجِّهَ له عن رأيه بالشاعر محمود درويش ، قال الحصني مضموناً لا نصاً : إن درويش حلقَ عالياً حتى اختفى ! لكنَّ أحداً لم يقلْ لنا إن طائرتَهُ سقطت في مكان ما ! أنا قطعاً لا أريد أن أحلّق بأصحابي (النجفيين) عالياً ، ولا أزعم أني شاهدت سقوط طائرةٍ لأحدٍ منهم .

ما أريد بيانَه أني شاهدتُ بأمِّ متابعتي أن عدداً منهم أهمل ذاته الشعرية متخذاً لمسيرته الإبداعية طريقاً أخرى ، أقلها ضرراً الاكاديمية والاعلام، وأكثرها ضرراً ـ بالشاعر ـ الفقه أو الدرس الديني.

ومن هؤلاء على سبيل السرعة الدكتور عبد نور داوود (وهو مثابر في كتاباته النقدية) ومنهم الدكتور باسم الماضي (وهو مستمر في الكتابة الشعرية غير المنشورة وهذا عندي مشروع غير منجز) ومن هؤلاء صديقي (المثابر ثقافياً وهو أستاذ جامعي أيضاً) الشاعر فارس حرام ومنهم الدكتور صباح عنوز (وهو مثابر في عمله الاكاديمي) ومنهم أستاذنا الشاعر عبد المنعم القريشي الذي لم يطبع كتاباً شعرياً الى الان ولو صنفناه أو جيَّلناهُ فسنضعه مع الستينيين ربما أو مع السبعينيين بلا شك (وهو مستمر في الكتابة الشعرية وهي بغير أن تطبع مشروع غير منجز) ومنهم الشاعر أحمد المحنا (وهو مستمر أيضا غير أن هم الفكر والقراءة المكثفة أخذه بعيداً) ومنهم الشاعر محي الدين الجابري (وهو مستمر في الشعر بغير نشر ، ومشغول أيضا بالدراسة الدينية والخطابة وقد حضرت له مجلساً) وأتمنى أن أكتب يوماً ماً عن كل واحد منهم .. ومنهم الشاعر كاظم البياتي الذي أريد أن أتحدثَ عنه الان .

أصدر البياتي مجموعته الأولى (شمس الجراح) سنة 1969 أي قبل نصف قرنٍ (وهي بين يدي الان) وسكت طويلاً جداً حتى أصدر مجموعتين شعريتين بعد 2010 وهما ( الجرح كتاب ) و (النهر يمشي عارياً) .

سأظلمُ الشاعر لو أغفلتُ الظروف الصعبة التي عاقته عن مواصلة الكتابة، فهو قد قضى وطراً من حياته تحت هيمنة الارباك السياسي، لكن الشعر في نهاية الامر هو الضحية الأولى، والشاعر المتمرد حُكم عليه آخر الامر بالضمور والضعف في محكمة الشاعر السياسي الذي آثر لنفسه أن يبقى داخل هذا الكائن البشري. قبل أسابيع احتفى اتحاد الأدباء في النجف بتجربة البياتي الشعرية وما لاحظته وما عاتبت به الشاعر يومها ، أن كلّ من تحدث عن تجربته كان يمر في نضاله السياسي من أوله إلى آخره ولم يتحدث أحدٌ قط عن شعر كاظم البياتي ولولا قراءة الشاعر بعضَ النصوص الشعرية لكان الاحتفاء تجمعاً حميمياً في ذكرى نضالية سياسية لا علاقة لها بالشعر . هذا الانطباع النضالي المحمود في سياقه طبعا ، هو ما تركه (الشاعر) في نفوس أصحابه ومعاصريه . أنانية العمل السياسي أخذت من حصة الشعر أكثر من حقها.

لولا إعجابي الكبير بمجموعة البياتي الأولى التي أصدرها وهو ابن الثامنة والعشرين، لقلت إنه شاعر مهمل بالأساس، لكن حضور الشعر وجديته وحرارته في تلك المجموعة تلقي بك على جدار الأسف ثم تدفعك للبحث عن أسباب هجرة الشعر والبقاء في ذكراه ، الخروج من جنته والتغني بها، الإصرار والتمسك بهذه التسمية الساحرة رغم تخلي المسمى .

أمرٌ مهمّ يميزُ هذه المجموعةَ الشعرية هو إنها أولُ إصدار من شعر التفعيلة يصدر في النجف ، لا أعني طباعة الكتاب ، فمن المؤكد أن كتباً شعرية من نوع التفعيلة طُبعت قبل سنة ٦٩ في النجف بداهةَ أن النجف مدينة مطابع منذ عهد عتيق ، والذي عنيته هو إن ( شمس الجراح ) أول مجموعة شعرية من التفعيلة ( التي سُميت الشعر الحر آنئذ ) تصدر لشاعر نجفي ، ولَم أعتمد في هذا القول على تتبعي فحسب ، إنما أكده لي الشاعر كاظم البياتي نفسه وثلةٌ من أساتذتنا (شيوخ القريض) في النجف .  (شمس جراح) كاظم البياتي المتوهجة لم يجارِها (نهره العاري) ولم يطاولها (جرح كتابه)، مع حبي الكبير له وإيماني به شاعراً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *