يمتلك العراق كل المقومات اللازمة لاقتصاد متنوع. أرض خصبة، موارد مائية (رغم تراجعها)، قوة عمل كبيرة، احتياطي نفطي يمكنه من تمويل التحول الاقتصادي. ومع ذلك، بقي الاقتصاد العراقي أسير الريع النفطي وغير قادر على بناء قاعدة إنتاجية في الصناعة والزراعة. يمكن تفسير ذلك من خلال مجموعة عوامل مترابطة.
تأثير الريع النفطي المستمر
تعدد مراكز القوة وامتصاص الريع النفطي من قبل قوى نافذة، يخلق منافسة شديدة على الموارد العامة. هذه القوى تستنزف جزءا من الإيرادات النفطية عبر النفوذ السياسي، والمقاولات، والسيطرة على المنافذ التجارية، ما يقلل المساحة المالية المتاحة للاستثمار الإنتاجي. وبهذا يصبح إنفاق الدولة موجها نحو مصالح قصيرة الأجل وليس نحو التنمية الهيكلية.
اعتمدت الحكومات المتعاقبة على الافراط في التعيين في الجهاز الحكومي كوسيلة لتخفيف الاحتقان الاجتماعي الناتج عن البطالة وخاصة بطالة الشباب، مما أدى الى تضخم القطاع العام، وارتفاع الإنفاق التشغيلي، وأضعف الإنتاجية، وزاد اعتماد المجتمع على الرواتب الريعية بدلا من العمل المنتج. هذا النمط أضعف الاستثمار في الصناعة والزراعة.
عقبات اقتصادية وسياسية متشابكة
جذور السلوك الريعي لدى المجتمع والدولة فالفارق الكبير بين إيرادات النفط وإيرادات الإنتاج المحلي يجعل المجتمع يرى أن النفط هو الطريق الأسرع لضمان مستوى معيشي مقبول. هذا الاعتماد على النفط وما رافقه من إيرادات كبيرة خلق حالة تعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ “المرض الهولندي” (Dutch disease)، حيث تؤدي الطفرة النفطية إلى ارتفاع مستوى الإنفاق الحكومي، وارتفاع الأجور دون نمو مماثل في الإنتاجية، وتراجع القدرة التنافسية للصناعة والزراعة، وميل المجتمع والدولة إلى تفضيل الريع على الإنتاج. وبهذا يصبح النفط ليس مجرد مورد اقتصادي، بل مانعاً بنيوياً للنهوض بالقطاعات الإنتاجية.
وجود فجوة ملموسة بين الإنتاجية والأجور مارست الدولة عبر النفط رفع مستوى المعيشة بشكل عام خاصو بمقارنتها مع الوضع المعاشي السيء في حقبة التسعينات اثناء الحصار الاقتصادي، لكن دون أن ترفع الإنتاجية بنفس القدر. انعكس ذلك على كلفة الإنتاج المحلي الذي أصبح أعلى بكثير من السلع المستوردة، وجعل قطاع الأعمال العراقي غير قادر على المنافسة دوليا، وارتفاع تكاليف العمل والطاقة والخدمات اللوجستية وضع الصناعيين والزراعيين في موقف خاسر.
الفساد (المتمثل بالرشاوى، والابتزاز الإداري، تضخيم كلف المشاريع العامة، العقود الوهمية) يعد واحدا من أكبر العوامل البنيوية التي تعرقل تنويع الاقتصاد، وتظهر آثاره في عدة مستويات منها، زيادة الكلف التشغيلية للمشاريع بما يجعل أي مشروع إنتاجي أكثر تكلفة مما يجب. واضعاف قدرة القطاع الخاص على المنافسة، وتحويل الاستثمار التنموي إلى إنفاق ريعي، وانحراف أموال التنمية إلى شبكات مصالح، وليس إلى البنى التحتية أو دعم الصناعة والزراعة بشكل صحيح.
عدم استقرار القرارات، وتغير التعليمات، وغياب الشفافية، جميعها تجعل المستثمر المحلي والأجنبي يحجم عن الدخول في الاقتصاد العراقي، بل يفضل التجارة السريعة على الاستثمار طويل الأمد.
ضغوط وسياسات دول الجوار التي تستفيد من السوق العراقية. فالسوق اعراقي اليوم يمثل منفذا كبيرا ومفتوحا لدول الجوار التي تصدر له كل شيء. وبالتالي، فان أي محاولة عراقية لبناء قطاع صناعي أو زراعي قوي سيؤدي إلى خسارتها للسوق العراقي، وهذا لا يخدم مصالحها. لذلك، فهي تمارس أشكالا مختلفة من الضغط الاقتصادي والسياسي للحفاظ على العراق كسوق مستهلك، من خلال إغراق السوق ببضائع رخيصة تفوق قدرة الإنتاج المحلي على المنافسة. وتعزيز شبكات تجارية داخل العراق مرتبطة بمراكز نفوذ. ودعم نمط اقتصادي قائم على التجارة وليس الصناعة. هذه البيئة الإقليمية المعقدة تجعل تنويع الاقتصاد العراقي مسألة ذات بعد سياسي خارجي، وليس مجرد قرار اقتصادي داخلي.
العراق يعد بيئة إنتاج طاردة للاستثمار بسبب التحديات البنيوية المتمثلة بضعف الكهرباء، وارتفاع كلف النقل، وغياب البنى التحتية الصناعية، وضعف تطبيق القانون، وسيطرة الاستيراد الأرخص كلفة. كل هذه العوامل تجعل الاستثمار في الصناعة والزراعة مخاطرة مالية عالية.
من ثم فان فشل العراق في تنويع اقتصاده ليس ناتجا عن نقص الموارد بل بسبب تشابك الريع النفطي مع بنية السلطة والفساد والمجتمع وضغوط الدول الاقليمية، فالاقتصاد الريعي أصبح جزءا من نظام الحكم ومن شروط الاستقرار السياسي، وتغييره يتطلب إرادة سياسية قوية، وإصلاح مؤسسي عميق، ومنظومة اقتصادية مستقلة عن مراكز النفوذ الداخلي والخارجي.
لتحقيق تحول اقتصادي حقيقي، يتطلب الأمر اعتماد سياسات مالية وهيكلية جديدة تنقل العراق من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي، ومن أهم هذه السياسات:
- عدم إدراج كامل إيرادات النفط في الموازنة التشغيلية، فهذه الخطوة تعد جوهرية للتحول الاقتصادي، ويتم تنفيذها عبر تخصيص نسبة محدودة فقط من الإيرادات النفطية للإنفاق التشغيلي وتقتصر على الرواتب الضرورية، والدعم الحكومي للقطاعات ذات الأهمية القصوى (مثل الأمن الغذائي، الصحة، التعليم).
- تحويل الفائض النفطي إلى صناديق تنمية واستثمار مثل الصناديق السيادية، وصندوق تمويل البنى التحتية، وصندوق دعم التحول الصناعي والزراعي.
- فصل مالية الدولة وسياساتها عن تقلبات أسعار النفط، لضمان متانة الاقتصاد وجعله أقل هشاشة بما يعزز الاستقرار الكلي.
- دعم القطاعات الإنتاجية بطريقة ذكية لا ريعية مثل دعم مدخلات الإنتاج وليس المنتج النهائي، ودعم الابتكار والتكنولوجيا، وتوفير الطاقة للمشاريع الإنتاجية بأسعار منظمة ومنافسة، وحماية المنتجات المحلية عبر رسوم إغراق مدروسة. إصلاح بيئة الأعمال ومكافحة الفساد بآليات مؤسسية، منها رقمنة الإجراءات الحكومية، تطبيق نافذة واحدة للمستثمر، تفعيل القضاء الاقتصادي، إلغاء الامتيازات الريعية التي تمنع المنافسة.
- إعادة توجيه الاستثمار العام نحو البنى التحتية الداعمة للإنتاج، مثل النقل، والمخازن المبردة، والمدن الصناعية، ومنظومات الري الحديثة.


