يسأل كثيرون هذه الأيام عن سبب الهدوء اللافت الذي يرافق الانتخابات الحالية، لا سيما ونحن نتحدث عن الحزب الديمقراطي الكوردستاني، الحزب الذي كان ولا يزال في قلب المشهد السياسي، حزباً مركزياً واسع القاعدة، يتّسم بحيوية التنظيم وعمق الارتباط بالشارع الكوردستاني.
منذ تأسيسه، عرف الحزب الديمقراطي الكوردستاني بأنه مدرسة سياسية متكاملة، تزاوج بين الانضباط التنظيمي والحرية الفكرية. فالحزب، رغم انفتاحه على النقاش الداخلي، يبقى ملتزماً بمبدإ القيادة الموحدة، حيث تنتقل التوجيهات من الأعلى إلى القاعدة، ومن القاعدة إلى الشارع العام، في منظومة متماسكة لا تعرف الفوضى، بل تعتمد الانسجام والاتساق في الموقف والرؤية.
ولذلك، حينما يتساءل البعض عن أسباب هذا الهدوء في الحملات الانتخابية هذه المرة، فإن الإجابة تكمن في رؤية القيادة العليا للحزب، وفي مقدمتها الرئيس مسعود بارزاني. لقد كان خطابه الأخير بمثابة خارطة طريق سياسية وتاريخية، جمع فيها بين الذاكرة النضالية للشعب الكوردي والتجارب التراكمية للحزب والدولة، مقدّماً سرداً زمنياً متسلسلاً للأحداث، حمل في طيّاته خلاصة وعي أمة ومسيرة نضال طويل.
خطاب الرئيس بارزاني
تميّز خطاب الرئيس بارزاني هذه المرة بهدوئه وعمقه، فهو لم يكن خطاب تعبئة آنية بقدر ما كان دعوة إلى التوازن والسكينة، وإلى نبذ ردود الفعل الانفعالية، أياً كان مصدرها. وقد ترك هذا الخطاب أثراً واضحاً في الشارع الكوردستاني، إذ شعر الناس بنبرة الطمأنينة والاتزان التي تعكس ثقة القيادة بنفسها وبشعبها. ولهذا، فإن حالة الهدوء الراهنة ليست ضعفاً في الحركة السياسية أو فتوراً في الحماس، بل نتيجة مباشرة لتعليمات القيادة التي اختارت الحكمة على التصعيد، والرصانة على الانفعال.
من جهة أخرى، يمكن القول إن العامل التنظيمي الداخلي ساهم بدوره في تعزيز هذا الهدوء. فعدد المرشحين في هذه الدورة أقل من نصف عددهم في الانتخابات السابقة، ما ساعد على تخفيف حدّة التنافس الداخلي، وقلّل من الضجيج الإعلامي الذي عادةً ما يرافق الحملات الكبرى. كما أن شعارات الحزب جاءت هذه المرة أكثر اتزاناً وواقعية، تعبّر عن رؤية ناضجة تتماشى مع المرحلة السياسية الراهنة في العراق الفيدرالي، حيث أصبحت مفاهيم الشراكة والتوازن والتوافق هي العناوين الكبرى لأي مشروع وطني ناجح.
وشعار الحزب الحالي، الذي يركز على هذه المبادئ الثلاثة، ليس مجرد كلمات انتخابية، بل هو موقف استراتيجي يعكس قناعة الديمقراطي الكوردستاني بضرورة بناء دولة تشاركية تقوم على الثقة المتبادلة بين المكونات، لا على منطق الغلبة أو الإقصاء. ومن الملاحظ أن كل من اقترب من هذه الرؤية في الساحة السياسية العراقية، وجد في الحزب الديمقراطي الكوردستاني شريكاً صادقاً ومتقدماً بخطوتين على من يسعى لتحقيق التوازن الحقيقي في إدارة الدولة.
أما على المستوى الميداني، فقد كان توزيع المرشحين مدروساً بدقة، حيث تم اختيار ممثل واحد لكل منطقة أو عشيرة، ما أسهم في تقليص المنافسة الداخلية داخل العشائر والمناطق نفسها، وخلق حالة من الانسجام الاجتماعي والسياسي. وهذه الخطوة تُعدّ بحد ذاتها نقطة نجاح تنظيمية تُحسب للحزب، لأنها ساعدت في توحيد الجهود خلف مرشحين قادرين على تمثيل مناطقهم بجدارة وكفاءة.
ومن الطبيعي أن تلعب عوامل أخرى دورها في إنجاح العملية الانتخابية، مثل السيرة الشخصية للمرشح، ومستواه العلمي، وخبرته الميدانية، وقدرته على التواصل مع الناس، بل وحتى إمكاناته المادية والإعلامية. فكل هذه العناصر، مجتمعة، تسهم في رسم الصورة العامة للحملة الانتخابية وتجعلها أكثر احترافية وفاعلية.
اللافت أيضاً أن الحملات الدعائية للحزب هذه المرة اتسمت بالاتزان والمسؤولية. فلا نجد تلك المظاهر الصاخبة أو التنافس السلبي، بل تسود روح من الاحترام المتبادل والانضباط الإعلامي، تجسيداً لتوجيهات القيادة بعدم الانجرار وراء الاستفزاز أو التصعيد غير المبرر. وهذا يعكس نضجاً سياسياً متقدماً، يُظهر أن الديمقراطي الكوردستاني لا يخوض معركة انتخابية بقدر ما يواصل مسيرة تاريخية من البناء والتجديد والتوازن.
في المحصلة، يمكن القول إن الهدوء الذي نراه اليوم ليس غياباً للحركة، بل حضور للحكمة. إنه انعكاس لمرحلة جديدة من الوعي السياسي، حيث يدرك الحزب الديمقراطي الكوردستاني أن قوته لا تُقاس بعدد الشعارات المرفوعة، بل بقدرته على الحفاظ على تماسكه الداخلي وثقة جماهيره. وهذا ما يجعل من الانتخابات الحالية اختباراً جديداً لنجاح الحزب في الجمع بين الانضباط والديمقراطية، بين الواقعية والطموح، وبين التاريخ والمستقبل.
لقد كان خطاب الرئيس بارزاني في اربيل يوم الاحد مع مرشحي الحزب بمثابة إعلان عن مرحلة سياسية جديدة، عنوانها الهدوء، ومضمونها الثقة، وغايتها المصلحة العامة. ومن هنا، فإن هذا الهدوء ليس سوى التمهيد لعاصفة من النجاح السياسي، عنوانها التوازن والشراكة، وروحها الإيمان بأن القادم أفضل، وأن كوردستان قادرة — كما كانت دائماً — على تجاوز كل مرحلة بحكمة قيادتها ووعي شعبها


