المقدمــة:
في ظل التحديات الاقتصادية المتزايدة التي يواجها العراق، لم يعد الاعتماد على الاقتصاد الريعي القائم على النفط خيارا مستداما، بل بات من الضروري التحول نحو اقتصاد إنتاجي متنوع، يقوم على المعرفة والمهارات، ويعتمد على الكفاءة البشرية لا على الموارد الطبيعية وحدها، وهنا يظهر التعليم المتقدم كأداة محورية في هذا التحول، إذ يمثل الاستثمار في رأس المال البشري، من خلال تطوير نظم التعليم العالي والتقني، مفتاحا لتعزيز الابتكار، وتحفيز ريادة الأعمال، وخلق فرص عمل مستدامة، تسهم في تقليل البطالة وتنويع مصادر الدخل القومي.
أولاً: واقع التعليم في العراق:
رغم ما يمتلكه العراق من إرث حضاري وتعليمي عريق، إلا أن واقع التعليم اليوم يواجه جملة من التحديات البنيوية التي تعرقل دوره التنموي، فالبيئة التعليمية في العديد من المؤسسات تعاني من تهالك البنية التحتية، وضعف التجهيزات التقنية والمختبرية، وغياب البيئة المناسبة للإبداع والتفكير النقدي، كما يواجه النظام التعليمي تراكما في المناهج التقليدية التي لا تواكب تطورات العصر، مما ت إلى فجوة واضحة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل.
من جهة أخرى، يعاني التعليم العالي من ضعف في التمويل والاستقلالية الأكاديمية، فضلاً عن محدودية الفرص البحثية، وغياب الشراكات الفعالة مع القطاعين العام والخاص، أما التعليم التقني والمهني، فرغم أهميته المتزايدة، لا يزال يُنظر إليه نظرة دونية مجتمعيا، ولا يحظى بالدعم الكافي لتطوير برامجه ومؤسساته، كما وتُفاقم التحدياتُ الأمنية والسياسية المزمنة من تراجع جودة التعليم، حيث أدت النزاعات وعدم الاستقرار إلى نزوح الكفاءات الأكاديمية وهجرة العقول، ما أفقد البلاد طاقات بشرية كان يمكن أن تسهم في عملية التنمية والإصلاح.
-
التعليم المتقدم كأداة لإعداد رأس المال البشري
يمثّل التعليم المتقدم، لا سيما العالي والتقني، حجر وركيزة في إعداد رأس المال البشري القادر على قيادة عملية التحول الاقتصادي في العراق، فمن خلال توفير برامج تعليمية نوعية تواكب احتياجات السوق، يُمكن بناء كفاءات وطنية شابة تمتلك المهارات التخصصية المطلوبة في القطاعات الحيوية مثل الطاقة، الزراعة، التكنولوجيا، والصناعة، وهي القطاعات التي يُعوّل عليها في تنويع مصادر الدخل الوطني.
كما يسهم التعليم في رفع الإنتاجية الفردية، إذ تُظهر الدراسات أن ارتفاع مستوى التعليم يرتبط طرديا بزيادة كفاءة الأفراد في أداء أعمالهم، مما ينعكس إيجابيا على الناتج المحلي الإجمالي، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يساهم التعليم المهني والتقني تحديدا في تقليص معدلات البطالة المقنّعة، عبر ربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل الفعلية، وتوجيه الشباب نحو التخصصات المطلوبة، مما يقلل من الفجوة بين العرض والطلب في سوق العمل.
-
التعليم كدعامة للتحول الهيكلي في الاقتصاد:
أحد النماذج التي استثمرت في التعليم هي كوريا الجنوبية، اذ استثمرت بشكل كبير في التعليم بعد الحرب، مما ساعدها على الانتقال من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد صناعي متقدم؛ فالتعليم يُعتبر البنية الأساسية التي تمكن من تحقيق التحول الهيكلي في اية اقتصاد نامي وذلك من خلال:
أ. إعداد رأس مال بشري كفؤ من خلال:
- تطوير المهارات التقنية والمهنية.
- تأهيل الكفاءات المطلوبة في الاقتصاد الرقمي، والطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، وغيرها.
ب. تشجيع البحث والاختراع:
- الجامعات ومراكز البحوث تساهم في خلق حلول محلية لمشاكل التنمية.
- الابتكار يؤدي إلى صناعات جديدة ويزيد من التنافسية.
ج. تحسين الإنتاجية في مختلف المجالات:
- العمالة المتعلمة أكثر قدرة على استخدام التكنولوجيا ورفع الكفاءة.
- دعم الانتقال من الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد المنظم.
د. العدالة الاجتماعية والاقتصادية:
- التعليم يقلل من الفجوة بين الطبقات، ويوسّع قاعدة المشاركة في الاقتصاد.
ولغرض تحقيق هذا الدور للتعليم، يجب تطبيق ما يلي:
- تحديث المناهج التعليمية بما يتوافق مع سوق العمل.
- التركيز على التعليم الفني والتقني وليس فقط الجامعي.
- ربط التعليم بسوق العمل من خلال شراكات مع القطاع الخاص.
- ضمان الجودة والاستثمار في الكوادر التعليمية.
-
لتكنولوجيا والتعليم الرقمي كرافعة اقتصادية
التحول الرقمي في التعليم يتم من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، والواقع الافتراضي في التعليم يعزز جودة التعلم ويواكب متطلبات السوق، وتعتبر إستونيا أحدا الدول التي استخدمت التعليم الرقمي لبناء اقتصاد رقمي متكامل، اذ ان التكنولوجيا والتعليم الرقمي يدعمان الاقتصاد من خلال الاتي:
- تدعيم رأس المال البشري: التعليم الرقمي يوفّر مهارات حديثة تتماشى مع سوق العمل (مثل البرمجة، تحليل البيانات، الذكاء الاصطناعي)؛ فضلا عن سهولة الوصول إلى التعليم عبر الإنترنت يتيح فرص تعلم مدى الحياة، مما يزيد من مرونة سوق العمل.
- توسيع الوصول إلى التعليم: تتم من خلال الرقمنة اذ تتيح التعليم للجميع، خاصة في المناطق الريفية أو الفقيرة؛ هذا الامر يخلق مجتمعا أكثر إنتاجا ومؤهلاً اقتصاديا، ويقلل من التفاوتات.
- خلق فرص عمل رقمية جديدة: يتم من خلال اقتصاد الوظائف الرقمية (، التجارة الإلكترونية، تطوير التطبيقات، الإعلانات والتسويق)؛ كما ان التعليم الرقمي يزوّد الشباب بالمهارات اللازمة لولوج هذه الأسواق.
- تحسين كفاءة النظم الاقتصادية: ان استخدام التكنولوجيا في التعليم يعزز الحوكمة، وتحليل البيانات التعليمية، واتخاذ القرار المبني على الأدلة، وهذا ينعكس على السياسات الاقتصادية نحو الأفضل وتخطيط تنموي أكثر فاعلية.
- دعم ريادة الأعمال والابتكار: منصات التعليم الرقمي تتيح تعلم ريادة الأعمال، إدارة الأعمال، التمويل، وغيرها؛ هذا الامر يشجع على إطلاق مشاريع صغيرة ومتوسطة، وهي محرك أساسي للنمو الاقتصادي.
يتطلب تحقيق الاستفادة القصوى من التكنولوجيا كرافعة للنمو الاقتصادي توفر مجموعة من الشروط الأساسية التي تشكل البيئة المناسبة لتوظيف التقنيات الرقمية بفعالية، في مقدمة هذه الشروط تأتي البنية التحتية الرقمية المتطورة، والتي تشمل شبكات الإنترنت السريعة والآمنة، وتوفر الأجهزة الرقمية، وشبكات الكهرباء المستقرة، خاصة في المناطق النائية والريفية؛ كما يُعد الاستثمار في رأس المال البشري أحد العوامل الحاسمة، وذلك من خلال تدريب وتأهيل الأفراد، لا سيما المعلمين والطلاب، على استخدام أدوات التعليم الرقمي وتطبيقاته، ولا بد أيضا من ضمان الشمول الرقمي، بحيث يتمكن جميع أفراد المجتمع من الوصول إلى التكنولوجيا، بما في ذلك الفئات المهمشة والضعيفة، إلى جانب ذلك، ينبغي تطوير سياسات وتشريعات تنظيمية مرنة تواكب التطورات الرقمية، وتحمي حقوق المستخدمين، وتضمن جودة المحتوى الرقمي، ويُعتبر تشجيع الابتكار والشراكات بين القطاعين العام والخاص ركيزة أساسية لتوسيع نطاق تأثير التكنولوجيا، وتحفيز ريادة الأعمال الرقمية، وخلق فرص عمل جديدة.
ثانيا: التحديات التي تواجه التعليم في العراق:
رغم السعي نحو تطوير منظومة التعليم في العراق، إلا أن التعليم المتقدم والذي يشمل التعليم العالي، التخصصات التقنية، والبحث العلمي لا يزال يواجه جملة من التحديات البنيوية والمعرفية التي تحد من قدرته على مواكبة التطورات العالمية والمساهمة الفاعلة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب ذلك، يُواجه التعليم المتقدم تراجعا في مستوى البحث العلمي، نتيجة محدودية التمويل المخصص للأبحاث، وغياب سياسات واضحة لدعم الباحثين، وقلة الشراكات مع القطاعين الخاص والدولي، كما أن العديد من البحوث تبقى حبيسة الأدراج بسبب عدم ربطها باحتياجات السوق أو قضايا التنمية الحقيقية، ايضا يُعاني التعليم المتقدم في العراق من نقص الكوادر الأكاديمية المؤهلة، وتدني مستوى التأهيل المهني المستمر لأعضاء هيئة التدريس، كما أن الكثير من الأساتذة يواجهون تحديات تتعلق بضعف الرواتب، وغياب بيئة البحث العلمي المحفّزة، مما يؤدي إلى “هجرة العقول” نحو الخارج.
يواجه قطاع التعليم في العراق مجموعة من التحديات المعقدة والمتداخلة، التي أثّرت بشكل مباشر في جودة العملية التعليمية وكفاءتها، وأعاقت تحقيق الأهداف المرجوة من التعليم كركيزة للتنمية الشاملة، تأتي الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة في مقدمة هذه التحديات، حيث أدت العقود المتعاقبة من الحروب والنزاعات الداخلية إلى تدمير البنية التحتية للمدارس والجامعات، ونزوح الملايين من الطلبة والمعلمين، وانقطاعهم عن التعليم لفترات طويلة، كما يعاني النظام التعليمي من ضعف في البنية التحتية والخدمات الأساسية؛ إذ تفتقر العديد من المؤسسات التعليمية إلى المرافق الصحية، والتجهيزات الحديثة، والبيئة التعليمية المناسبة خصوصا المدارس، وتُعد الازدواجية في الدوام (الدوام الثلاثي أو الثنائي) من أبرز المؤشرات على العجز الحاد في عدد المباني الخاصة بالمؤسسات التعليمية مقابل النمو السكاني.
يُضاف إلى ذلك وجود نقص حاد في الكوادر التعليمية المؤهلة، حيث تعاني العديد من المؤسسات التعليمية من قلة المعلمين، خاصة في التخصصات العلمية، فضلا عن ضعف برامج إعداد وتدريب المعلمين، مما يؤثر سلبا على مستوى التحصيل العلمي وجودة التعليم المقدم، من جهة أخرى، يواجه التعليم تحديا كبيرا يتمثل في تقادم المناهج التعليمية وعدم مواكبتها لمتطلبات العصر، حيث ما تزال الكثير من المناهج تعتمد على الحفظ والتلقين، ولا تولي اهتماما كافيا لتنمية المهارات التحليلية، أو استخدام التكنولوجيا، أو تعزيز التفكير النقدي والإبداعي.
أيضا، يُشكل ضعف التمويل الحكومي المخصص لقطاع التعليم عائقا رئيسيا أمام تنفيذ مشاريع تطويرية حقيقية، إذ لا تزال حصة التعليم من الميزانية العامة متواضعة، ولا تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية مثل بناء المدارس، تطوير المناهج، أو إدخال التعليم الرقمي، إضافة إلى كل ما سبق، يعاني التعليم في العراق من تفاوتات جغرافية واجتماعية كبيرة، حيث تكون فرص التعليم أقل في المناطق الريفية والمحرومة، وتزيد معدلات التسرب من المدارس، خاصة بين الفتيات، نتيجة عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية.
ثالثا: رؤية مستقبلية للتعليم في العراق:
التعليم المتقدم في العراق يجب أن يتحول من نظام تقليدي محدود التأثير، إلى نظام ديناميكي، منتج للمعرفة، وشريك أساسي في التنمية الوطنية، عبر سياسات واضحة، واستثمار فعّال في الإنسان والبحث والتكنولوجيا، اذ يُعد التعليم المتقدم في العراق ركيزة استراتيجية لإعادة بناء الدولة وتحقيق التنمية المستدامة في مختلف المجالات، وانطلاقًا من التحديات التي يواجها هذا القطاع، تقتضي الرؤية المستقبلية العمل على إرساء منظومة تعليم عالي عصرية، مرنة، وتنافسية، تقوم على الابتكار، وتعزز دور الجامعات كمراكز إنتاج للمعرفة، ومحركات أساسية للاقتصاد الوطني.
- تتطلب هذه الرؤية إعادة هيكلة النظام التعليمي العالي ليكون قائمًا على الجودة والاعتماد الأكاديمي، بما يضمن مواكبة المعايير العالمية، ويرفع من تصنيف الجامعات العراقية إقليميًا ودوليًا. ويشمل ذلك تطوير المناهج لتكون أكثر تفاعلًا مع التغيرات التكنولوجية والاقتصادية، والتركيز على المهارات العملية والتطبيقية، وليس فقط الجوانب النظرية.
- يجب أن تتبنى الجامعات العراقية ثقافة البحث والابتكار من خلال تخصيص ميزانيات مستقلة للبحث العلمي، وإنشاء مراكز بحثية متخصصة ترتبط مباشرةً باحتياجات الدولة وسوق العمل، مثل الطاقة المتجددة، التحول الرقمي، المياه والزراعة، والذكاء الاصطناعي.
- تقوم الرؤية المستقبلية على التحول الرقمي الشامل في التعليم العالي، من خلال دمج التكنولوجيا في جميع مفاصل العملية التعليمية، واعتماد التعلم الإلكتروني والتعليم الهجين كجزء من استراتيجية دائمة، وليس حلاً مؤقتًا. كما يشمل ذلك تعزيز البنية التحتية الرقمية، وتوفير أدوات التعليم الحديثة للطلبة وأعضاء هيئة التدريس.
- من الضروري تعزيز الشراكات الدولية مع الجامعات الرصينة والمؤسسات البحثية العالمية، بهدف تبادل المعرفة، وتنمية القدرات، وتوسيع آفاق التعاون الأكاديمي والعلمي، مما يسهم في رفع كفاءة المخرجات التعليمية وتدويل التعليم العالي في العراق.
- تتطلب الرؤية المستقبلية ربط التعليم بسوق العمل والتنمية الاقتصادية، من خلال تطوير التخصصات الجامعية لتتوافق مع احتياجات الاقتصاد المحلي والعالمي، وتفعيل التدريب العملي، وحاضنات الأعمال، ومراكز ريادة الأعمال داخل الجامعات، بما يمكّن الطلبة من التحول إلى فاعلين اقتصاديين بعد التخرج.
التوصيات الاستراتيجية للنهوض بالتعليم والاقتصاد:
- وضع رؤية وطنية موحدة للتعليم مرتبطة بالتنمية الاقتصادية.
- تحديث المناهج التعليمية بما يتوافق مع متطلبات المهارات الحديثة.
- الاستثمار في تطوير الكوادر التعليمية والأكاديمية.
- تعزيز التعليم المهني والتقني وربطه بسوق العمل.
- رقمنة التعليم وتوسيع استخدام التكنولوجيا في العملية التعليمية.
- دعم البحث العلمي والابتكار وربطه بالتحديات الاقتصادية.
- تشجيع ريادة الأعمال في المؤسسات التعليمية.
- تعزيز الشراكة بين مؤسسات التعليم والقطاع الخاص.
- رفع كفاءة التمويل المخصص للتعليم وتوجيهه نحو الأولويات.
- ضمان العدالة وتكافؤ الفرص في التعليم والتنمية الاقتصادية.


