1- المقدّمة: السنن الإلهية لا تتبدّل
قال تعالى:
﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 62)
وقال أيضًا:
﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ (فاطر: 43)
هاتان الآيتان ترسمان قاعدة مطلقة في التاريخ الإنساني: إن الله لا يُبدّل سُننه في المجتمعات، فمن يسلك طريق الظلم والفساد ويستبيح الدماء، يُمهَل ثم يُؤخَذ أخذ عزيزٍ مقتدر. هذه هي القاعدة التي أسقطت حضاراتٍ بالأمس، وتهدد أخرى اليوم.
2- الأمم السابقة؛ حين يتحوّل الازدهار إلى هلاك
يُبرِز القرآن مصائر أقوامٍ بلغت ذروة الحضارة لكنها عصت ربها، فاندثرت:
قوم عاد اغترّوا بقوتهم وقالوا: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾، فأرسل الله عليهم ريحًا صرصرًا عاتية.
قوم ثمود نحتوا الجبال بيوتًا آمنة لكنهم كذّبوا صالحًا، فهلكوا بصيحةٍ واحدة.
فرعون بلغ به الغرور أن قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، فغرق في البحر عبر مشهدٍ خالدٍ من العدل الإلهي.
هذه القصص ليست أساطير، بل دروسٌ متجددة تؤكّد أن الظلم وقتل النفس البريئة واحتقار قيم العدالة هي مفاتيح سقوط أيّ حضارة مهما بلغت قوتها.
3-المقارنة المعاصرة: حين تتكرّر السنن
في عصرنا الحديث، تتجلّى السُنن ذاتها بصورةٍ أخرى.
فالولايات المتحدة وإسرائيل تمضيان في طريقٍ يشبه طريق الأقوام السابقة: استكبارٌ، تبريرٌ للقتل، وتقديسٌ للقوة على حساب القيم.
فأمريكا تُنفق تريليونات على الحروب وتترك ملايين المواطنين بلا ضمان صحي ولا سكن كريم. أما إسرائيل فتبيد شعبًا بأكمله تحت ذريعة “الدفاع عن النفس” في أرض إغتصبتها بالقوة بعد الإعتراف الأممي والدولي بالكيان المؤقت وتحديدًا غزة والضفة الغربية والقدس الشريف، فتقصف المستشفيات والمخيمات والمدارس في مشهدٍ يختصر أبشع صور الظلم المعاصر.
هذه الأفعال ليست فقط خرقًا للقانون الدولي، بل خروجٌ على سُنّة الله في حفظ الحياة والعدل، وهي بداية التآكل الداخلي الذي يسبق سقوط الأمم.
4- القتل الجماعي وامتحان الإنسانية
قال تعالى:
﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: 32)
بهذا المعيار الإلهي، تتحوّل سياسات القتل الجماعي إلى مقدّمةٍ للزوال. فالإفراط في العنف لا يحقّق أمنًا، بل يولّد حقدًا ومقاومة. والتاريخ مليء بالإمبراطوريات التي تهاوت لأنها تجاهلت قدسية النفس البشرية، واستبدلت العدل بالبطش.
5- الاقتصاد… بوابة الانهيار الأولى
الإنهيار لا يبدأ في ميدان القتال، بل في داخل الاقتصاد.
فالولايات المتحدة تواجه اليوم دينًا يتجاوز 37 تريليون دولار، وعجزًا غير مسبوق في الموازنة، بينما تُغدق المليارات على دعم الحروب في أوكرانيا وإسرائيل. هذا الإسراف العسكري على حساب حاجات الشعب هو وجهٌ جديد من وجوه الفساد الذي أسقط حضاراتٍ سابقة.
أما إسرائيل فتعتمد على المعونات الغربية لتغطية حروبها. ومع طول العدوان، بدأت آثار الانهيار تظهر: هجرة عكسية، تراجع الاستثمار، وتصدّع داخلي في مؤسساتها الأمنية والسياسية.
إنها مؤشرات لسنّةٍ ماضية: حين تُستهلك الدولة في العدوان، تضعف من الداخل مهما بدت قوية في الخارج.
6- التحلّل القيمي والسياسي
تبدأ نهاية الأمم حين تفقد بوصلتها الأخلاقية.
ففي أمريكا، تحوّل الدين إلى أداة سياسية تُبرّر الحروب، وغابت العدالة الاجتماعية في ظل تفاقم العنصرية والانقسام الحزبي.
وفي إسرائيل، تُوظَّف النصوص الدينية لتبرير الاستيطان والإبادة الجماعية( لا تنسوا ما فعله عماليق) ، في تكرارٍ واضح لنهج فرعون حين جعل من نفسه مرجعًا للحق والباطل.
وحين يُربط الظلم باسم الله، يصبح العقاب مضاعفًا؛ لأن الفساد حين يلبس لبوس “القداسة” يفسد الأرض والضمير معًا.
7- التدمير الذاتي: العقوبة السننية
قال تعالى:
﴿وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾ (الكهف: 59)
الهلاك لا يأتي فجأة، بل بعد مهلةٍ تاريخية، تختبر فيها الأمة نفسها: أتمضي في الغيّ أم تعود إلى العدل؟
وما نشهده اليوم من اضطرابات داخل أمريكا، وانقسامٍ سياسيٍ حاد، واحتجاجات على دعم الإبادة في غزة، ليس إلا بوادر الهلاك الذاتي البطيء الذي يُذكّر بسقوط كل إمبراطورية تجاوزت حدودها الأخلاقية.
أما إسرائيل، فقد بدأت تفقد عناصر بقائها: الجيش المستنزف، الانقسام الداخلي، والعزلة الدولية المتزايدة. إنّها سنّة الله في كل من ظَلَم: يظنّ أنه ينتصر بينما يسير نحو نهايته.
8- لا مفرّ من سُنّة الله
قال تعالى:
﴿وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (هود: 102)
الظلم لا يمرّ بلا حساب، وسُنّة الله لا تحابي أمةً دون أخرى.
من يقتل الأطفال ويمارس الإبادة، ومن يدعم الظالم بالمال والسلاح، لا بدّ أن يدفع الثمن عاجلًا أو آجلًا.
القوة المادية قد تُغري بالاستمرار في الطغيان، لكنها لا تحمي من السقوط عندما تُفقد الأخلاق وتُستباح القيم.
9- طريق النجاة: التوبة الجماعية والإصلاح
قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)
فالنجاة من السقوط لا تكون بالقوة ولا بالتحالفات، بل بالعودة إلى العدل.
فالتوبة الجماعية، وإصلاح السياسات، ووقف الحروب، ومحاسبة المجرمين هي الطريق الوحيد لاستعادة التوازن قبل فوات الأوان.
إنّ العدالة ليست شعارًا بل ضمانة للبقاء، والظلم مهما تجمّل بالشعارات سيقود إلى مصيرٍ واحد: الزوال الحضاري والاقتصادي والوجودي.
10-خاتمة
القرآن لا يروي القصص للتسلية، بل ليُنبّه الحاضر بمصير الماضي.
من عادٍ وثمود وفرعون إلى أمريكا إسرائيل ومن يدعمهما الخطيئة واحدة والنتيجة واحدة:
فمن يستبيح الدماء، ويحتقر العدالة، ويُقدّس القوة على حساب الإنسان، يسير بثباتٍ نحو الهاوية،
لأنّ {فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا}.
وإنَّ غدًا لناظره قريب


