تأتي المجموعة القصصية (حارس ملفات الموتى) للقاص أسعد خلف لتضع القارئ أمام تجربة سردية متشابكة بين الواقعي والحداثي، حيث يحاول الكاتب أن يستفيد من أدوات ما بعد الحداثة من دون أن يتخلى عن الجذر الواقعي في نصوصه. تتألف المجموعة من 14 قصة، لفت الانتباه منها قصتان بعناوين رقمية هما: “الرحلة 961” و “D6″، وهو خيار قلما يلجأ إليه القاصون إلا في حالات لها دلالة رمزية أو ضرورة فنية.
ورغم ما يقال عن أدب ما بعد الحداثة من أنه أدب “هستيري” مفرط بالكآبة والاغتراب، أو عن الأدب الحداثي المبهرج الذي يغالي في الغرائز والأبطال، فإن أسعد خلف يصر على أن يكون للواقع نصيبه، فيقدم قصصا تحتفظ بجوهرها الإنساني وملامحها المألوفة، حتى عندما يستعير شكلاً غير مألوف في العنوان أو البناء.
قراءة في قصة “الرحلة 961“
القصة ترسم ملامح مغترب يعود إلى العراق على متن رحلة تحمل هذا الرقم. عودته ليست انتقال مكاني، بل استعادة لذاكرة مثقلة بالحنين والأسى. يسأل عن أمه التي رحلت، وعن صديقه العاشق الذي خذلته المدينة، وعن بائع المكسرات “زرزور”، وعن باجة “درويش” وعن “السياب” التمثال والرمز، وعن “ناصر” بائع الصحف الذي غيبه الموت وغيب معه زمن القراءة الورقية.
الرحلة إذن هي محاولة لاسترجاع الماضي ومساءلة الحاضر: بغداد التي كانت منبع الحب تحولت إلى مدينة أخرى لا تعترف بذكريات العاشقين، والمكتبات التي كانت “قوتا في الأيام السود” تراجعت أمام صخب الهواتف النقال، والتمثال الذي يولي وجهه للقبر صار شاهداً على الانكسار.
محاور القصة
- المحور الاغترابي: القصة ترصد تجربة العودة بعد غياب طويل، حيث يكتشف البطل أن الزمن لم يتوقف، بل أكل من الوجوه والأمكنة ما يجعلها غريبة عنه.
- المحور الاجتماعي: النص يضيء على تحولات المجتمع العراقي، من زمن الصحف الورقية وباعة المكسرات إلى زمن التكنولوجيا وانطفاء القراءة.
- المحور الرمزي: التمثال (السياب) وبائع الصحف ومكتبة الصديق ليست تفاصيل فحسب، بل رموز لزمن مضى وانتهى، ولجيل لم يجد بديلاً يحفظ ذاكرته.
- المحور النفسي: يعيش البطل صراعا داخليا بين الحنين إلى الوطن وخيبة الاكتشاف بأنه لم يعد الوطن ذاته الذي غادره.
خاتمة
بهذه القصة، ومن خلالها المجموعة ككل، يؤكد أسعد خلف أن الأدب الواقعي ما زال قادرا على حمل هموم الإنسان العراقي وتوثيق تحولات مدينته، حتى وإن استعان بآليات شكلية من الحداثة. “الرحلة 961” ليست فقط رقم لرحلة طائرة، بل رحلة في الذاكرة العراقية المثقلة بالفقد والحنين، رحلة تكشف أن العودة لا تعني بالضرورة استعادة الوطن كما كان، بل اكتشاف وطن آخر قد لا يسعف القلب على التصالح معه.


