المواطن ليس شماعة لفشل تجربة الدفع الإلكتروني
ألقى محافظ البنك المركزي العراقي باللائمة على المجتمع في ضعف نجاح تجربة الدفع الإلكتروني، معتبرًا أن عزوف المواطنين عن استخدام هذه الوسيلة يقف عائقًا أمام تطوير القطاع المالي. غير أن هذه التصريحات تعكس محاولة لتغطية الإخفاق المؤسسي، أكثر مما تعكس معالجة موضوعية لجذور المشكلة.
غياب الإستراتيجية والرؤية النقدية
الدفع الإلكتروني ليس مجرد “خدمة تقنية” تُطرح في السوق ثم يُنتظر من المجتمع أن يتبناها تلقائيًا. نجاح هذه التجربة يتطلب إستراتيجية نقدية شاملة تربط بين:
- السياسة النقدية وأهداف الاستقرار المالي.
- المنظومة المصرفية التي يجب أن تكون متماسكة، شفافة، وذات ثقة عالية.
- إطار تشريعي ورقابي يضمن حماية المستهلك المالي ويكبح محاولات الاحتيال والفساد.
غياب هذه الركائز جعل الدفع الإلكتروني يبدو مشروعًا معزولًا، غير قادر على بناء الثقة، بدل أن يكون جزءًا من إصلاح هيكلي للقطاع المالي.
منظومة مصرفية هشة
لا يمكن أن نتحدث عن نجاح الدفع الإلكتروني في بلد ما زالت فيه المصارف عاجزة عن:
- توفير السيولة بشكل منتظم للمودعين.
- تأمين أنظمة إلكترونية متطورة بمستوى عالمي لحماية بيانات العملاء.
- تقديم خدمات حقيقية تتجاوز الروتين الورقي إلى حلول مصرفية ذكية.
بل إن حالة الإفلاس الجزئي لبعض المصارف، والوصاية المفروضة على أخرى، وحرمان الجمهور من الثقة بجدوى الادخار المصرفي، كلها عوامل عمّقت الفجوة بين المواطن والمنظومة المالية.
المواطن ضحية وليس مسؤولًا
تحميل المواطن مسؤولية الفشل فيه مغالطة واضحة. فالمواطن العراقي يدفع الثمن مضاعفًا:
- مرة من خلال فقدان الثقة بالقطاع المصرفي.
- ومرة أخرى من خلال تحمله مخاطر استخدام أدوات دفع إلكتروني غير محصّنة بشكل كافٍ.
التجارب الدولية الناجحة في الدفع الإلكتروني – من الصين إلى الهند – لم تُبنَ على إلقاء اللوم على المجتمع، بل على استثمار الدولة في البنية التحتية الرقمية، وتوفير الحوافز، وإجبار المؤسسات الرسمية والخاصة على الاندماج مع أنظمة الدفع الإلكتروني.
ما المطلوب؟
بدلًا من التصريحات التبريرية، المطلوب:
- وضع إستراتيجية وطنية متكاملة للتحول الرقمي المالي.
- بناء ثقة مصرفية من خلال إصلاح شامل للمصارف الحكومية والأهلية.
- تطوير بنية تحتية تكنولوجية آمنة ومعايير صارمة لمكافحة الاحتيال.
- تفعيل دور الرقابة المالية وربطه بجهود مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، لضمان شفافية حركة الأموال.
- إطلاق حملات توعية مهنية تستهدف المواطنين والشركات، مدعومة بحوافز مالية وضريبية لاستخدام الدفع الإلكتروني.
المواطن ليس شماعة لتعليق فشل المؤسسات. إخفاق تجربة الدفع الإلكتروني في العراق لا يعود إلى رفض المجتمع، بل إلى غياب الرؤية النقدية والمنظومة المصرفية الحقيقية. الإصلاح يبدأ من إعادة بناء الثقة بالقطاع المالي، لا من لوم الناس على عزوفهم عن الدخول في تجربة غير آمنة وغير مكتملة.