1 ان اعتبار آخر المجاميع الشعرية للشاعر حسين عبد اللطيف والتي عنونت بعنوان اكبر النصوص فيها (أمير من أور)، اعتبارها (مناصا)؛ أي نصا بكل تفاصيله المادية، يحتم ان يتم النظر إليه باعتباره يتشكل من مجموعة من النصيصات: الغلاف الأول والغلاف الأخير، والعتبات التجنيسية والتوثيقية، والمقتبسات النصية كمقدمات للنص، ومنها (مقدمة) احتلت الغلاف الأخير!، فكانت متأخرةً زمانا ومكانا عكس المقدمات الأخرى التي توصف بأنها متقدمة مكانا متأخرة زمانا… وهنالك صورتان في الأغلفة: الأولى أشبه ما تكون بالصور الظلية المأخوذة عبر كونتراست (تباين لوني) شديد بين الأبيض والأسود، بينما تصور الصورة الأخيرة (الأمير) وهو معتمرا قبعة ذات دلالة بالنص الذي كتبه عنه الشاعر العراقي سعدي يوسف في مقدمة الديوان (في غلافه الأخير)!.
ضمت مجموعة (أمير من أور) ملاحق لم تعنون، أو تجنس باعتبارها ملاحق ولكنها كانت كذلك فعلا، الأول بعنوان (احمد أمير.. الجاسم (24/8/1952 الناصرية 16/5/1994 برلين)) واعتقد ان وجود الفاصلة (..) بين اسم (احمد أمير) ولقبه (الجاسم) ربما تشي بأنه كان معروفا فقط كـ(احمد أمير)، أو ربما أية أسباب أخرى تجعل فاصلة النقطتين هنا ضرورية؛ فيضعها الشاعر ليشق اسم المرثي نصفين… وبرأينا ان الشاعر أراد بهذا الملحق ان يؤكد: أولا، الصلة الوثيقة بينه وبين المرثي (المحتفى به) منذ السطر الأول في هذا الملحق “من اخص أصدقاء الشاعر” وهو السبب الأول لتخصيص كتاب منفصل في رثاء (احمد.. أمير.. الجاسم)، والقضية الثانية التي أراد الشاعر توكيدها ان احمد الجاسم (مَجْمَعا) للمواهب الاستثنائية (التي ظلمها وطنها ففرّت لتأخذ فرصتها في الغربة، فهو “موهبة كبيرة ومبكرة في الرسم والشعر والكتابة المسرحية”)، ثم أضاف الشاعر ملحقا آخر لم يجنسه كملحق وجاء بعنوان (اضاءات – القصائد) ولا نعلم سر الفاصلة بين الكلمتين ولماذا لم تكتب (اضاءات القصائد) كمضاف ومضاف إليه لخبر محذوف تقديره (هنا). وهي اضاءات ربما كان الأجدى، برأينا، ان تكون بشكل: هوامش بحرف صغير أسفل الصفحات، أو ان تلحق كل قصيدة بإضاءاتها مباشرة في أسوأ الأحوال…، ثم ملحق تمت عنونته (المؤلف في سطور)، فملحق بإصدارات اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في البصرة التي (طبعت على نفقة شركة آسيا سيل للاتصالات) وان لم يذكر ذلك في الملحق..
2 يبتدئ نص (أمير من أور) من بداية الخيبة الجلجامشية حين قضى رفيق طريقه انكيدو، وبعد فقدان نبتة الخلود (عند حسين عبد اللطيف تتجسد نبتة الخلود باعتبارها فقدانا للإيمان بجدوى الأشياء) :
“الآن…/ وقد انتهينا من كل شيء/… فلم يعد من طائل وراء هذا السعي المحموم/ في هذا العالم…/حيث الغلبة للأفعى/ في اقتناص الأبدية وحيازتها منك/ الجهود، كلها، باطلة، تقريبا/ ابنة الندم” (أمير من أور، ص 43)،
وهو خطاب موجّه لانكيدو (احمد الجاسم) عبر ذات الآلية الرثائية العربية القديمة في مخاطبة (المرثي:
“طالت ولو قصرت يدُ الأقدار… لرمت سواك عظمْتَ من مختارِ” (الجواهري)،
فحسين عبد اللطيف يتجاوز الخطاب العام الموجَّه إلى حشد من أفعال الأمر الموجهة إلى المرثيّ فحسين عبد اللطيف يتجاوز الخطاب العام الموجّه إلى حشد من أفعال الأمر الموجهة إلى المرثيّ:
“لا تصرف نقودك قبلي” ص 46
“خذ حذرك” ص43
“واعل برؤاك” ص 44
“أعفني الآن
من النظر…” ص45
ومن بداية المرثية وحتى نهايتها يعود الشاعر لمخاطبة المرثي كل مرة وكأنه مازال حيا:
“اعتن أكثر بالأشكال والبورتريت” (ص 43)،
وهكذا حتى نهاية النصّ؛ فيمكن من أولى عتبات مجموعة (أمير من أور)، من عنوانها، يمكن تلمّس أولى خيوط طبيعة هذه المجموعة الشعرية حيث يتكرر عنوان حسين عبد اللطيف (أمير من أور) مرة في الغلاف الخارجي وأخرى في الصفحة الأولى وثالثة في تفاصيل أرشفة الكتاب “جميع الحقوق محفوظة/ الكتاب : أمير من أور/ المؤلف : حسين عبد اللطيف..”، فأمير من أور تشي منذ البدء بأمير من مدينة مدفونة تحت التراب، بينما يظهر في الصفحة الرابعة (نتوء عنواني) هو “حسين عبد اللطيف/ أمير من أور/ (في وداع احمد الجاسم)”، ثم يظهر في الصفحة الرابعة عنصر مهم في تحديد اجناسية (الغرض الشعري) من خلال الموت والحسرة على الماضي في نصين اقتبسهما الشاعر هما :
“اطل علي الموت من اثنتين وأربعين نافذة سكت الزنوج.. فمونمارتر أمست مظلمة” (لانسيلونت – اراغون)
“الألعاب النارية انتهت / آه : يا له من خواء!/ ويا لها من ظلمة!” (شيكي)
وبذلك تكون المراثي هي حقل اشتغال هذه المجموعة، والمراثي (الموروث الرثائي في الشعر العربي)، منذ مرثية عبدة بن الطيب في رثاء قيس بن عاصم : “عليك سلام الله قيس بن عاصم” كان خطابا يتجه إلى (ميت) يفترضه الراثي قادرا على تلقّي الخطاب، ويفترضه حسين عبد اللطيف قادرا على تلقّي الخطاب، والتذكّر، وتصحيح (الأخطاء) الفائتة، فرغم ان خطاب (أمير من أور) ينطلق من لغة (الآن) إلا انه يشير بشكل دائم إلى زمن مضى (=ذكريات) مأسوف على انقضائها، يقف الشاعر في (الآن) ويستعيد ماضي ذكرياته، موجها خطابه إلى نفسه وهو : يرثي نفسه، ويندب حضه على ما مضى، إضافة للآخر الحي الذي كان حسين عبد اللطيف، فيما سبق، يوجه له خطابه سابقا :
“احملي قمحنا وانثريه…/ في وهاد القرى / لا تعيدي أو تعودي بنا القهقرى/ فالذي كان.. كان/ والذي قد جرى.. قد جرى”..
وقد استبدله الآن بآخر ميت…
يذكر الراثي (الشاعر) مرثيه : الآن وقد مت (انتهى كل شيء)؛ فالجهود باطلة والبدايات والنهايات واحدة لا تختلف بين الجميع…
هنالك اختلاف واضح بين مسعى جلجامش في البحث عن خلوده الذاتي لكي لا يلاقي مصير انكيدو بينما كان حسين عبد اللطيف يهدف إلى تخليد رفيق رحلته من خلال الكتابة، أي تخليده من عبر خلود النص..
3 في هذا النص يحاول الشاعر رسم لوحة مشهدية عبر الكلمات وبالكلمات، في مشهد بصري في دلالاته”:
“… البيوت/ مثل ربات قطار فارغة/ او نعوش” (ص 53)،
“أنا أتحطّم كآنية” (ص 53)
وايضا في رسم النص (تَشكّله الجسدي على صفحة الورقة) من خلال نمط لا تضبطه قواعد مقننة في التنقيط والفوارز والفواصل وتوزيع الكلمات على الأسطر وتمزيق وحدة الجملة، فجاءت صوره بصرية بالدرجة الأساس:
“القمر –عين الليل-: حياة جامدة/ مقلة بيضاء/ من الجص أو الجير المنطفئ/ لمسيح/بلا بؤبؤ ولا أهداب”،
ويعيد بالكلمات رسم لوحات رسم شهيرة، كتصويره لوحة (القمر والغجريّ النائم)
“هل حقا –ذات يوم- سيمتلك ضميره الحي/ ويصرخ مرتجفا لمرأى الأسد/ بغريزته الحيوانية المبهمة ولبدته الجمة/ بلا حفيف أو زئير/ يدنو متئدا/ من فريسته الغارقة في سباتها العميق/ وهي تحلم بأزهار اسود من صنع يديها”
ويذكر أيضا بلوحة العميان الستة للرسام بروجل حيث خمسة عميان يقدهم أعمى سادس إلى حفرة ستشكل حتفهم المحتوم.
4 رغم ان معظم أفعال النص جرت بالماضي ولم تعد إلا بقايا ذكريات :
“انتهينا” ص43،
“كان الاولى ان تاخذ بيدي” ص 46،
“حين قفلنا راجعين/ من ايطاليا الى باريس” ص46،
“رمينا بحفنة النقود” ص 46،
“داعبنا المارة بجذل!” ص 46؛
ولكنه يعود من صحوته (الشاعر) ليعيدنا إلى النظر من الحاضر إلى الماضي حينما يخاطب المرثي:
“ألا تذكر!”..
5 يصطدم الشاعر بحقيقة ان الآخرين لا يوافقونه بان المرثي مازال قادرا على تلقي الخطاب حينما كانت رسائل الشاعر إلى المرثي كانت تعود بختم بريدي بالألمانية مؤشرة بان الرسائل :
“فرسائلي اليك :
Nicht obgcholt
Hon reclame” أي (لم يتسلمها احد)…
مما يجعل الشاعر يجفل لان حلمه لا يصمد أمام قسوة الواقع..
6 أهم خصائص شعرية حسين عبد اللطيف انه رغم إصداره الخطاب بلسان الشخص الأول إلا انه حاول كبح الكثير من رومانسية الذات المتحدثة إلى الآخر وهو واحدة من أهم الخصائص التي تجاوزها الشعر العالمي.. فكان دائم الاشتعال بنصوصه من اجل كبح الذاتية قدر أمكانه وصولا لكتابة نصوص اليوتية (نسبة إلى اليوت) تكبح فيها الذاتية التي تطغى على الشعر العربي والبلاغة العربية التقليدية.. فلم تكن قصيدة النثر التي يكتبها حسين عبد اللطيف ذات طابع ترجمي (من ترجمة) أي إنها لم تكن مبهورة بالنماذج المترجمة، ومع ذلك فقد كانت حداثية وغير غنائية بامتياز.
7 معروف ان للمرثية السن ثلاثة هي : الراثي والمرثي والمرثية، إلا ان حسين عبد اللطيف كان يحاول أحيانا تغيير وجهة النظر فكان (يسطو) على لسان المرثي (احمد الجاسم) ويتلبسه ويشير إلى ذات الشعر لسان المرثي :
“كبدي تتفتت
لا تخبروا أمي
اخفوا عنها
اخفوا عن القابع في طرف من أطراف البصرة” ص16-17
ان هذه المرثية هي في التحليل الأخير، استعادة سيرة (من السير الذاتية) التي هي مزيج من البيوغرافيا والاوتوبيوغرافيا، أي السيرتين: الذاتية والغيرية تذكّر بالبحث عن الزمن المفقود، أو ربما تشكل بالادا (=حكاية شعبية) تذكرنا كذلك بما قدمه: لوركا في مرثية سانشومخياس (مصارع الثيران)، وسعدي يوسف: انطونيو بيرز، والمهدي بن بركة، والأخضر بن يوسف، والبياتي: المتنبي، ولوركا والخيّام، والبريكان: عيسى بن ازرق.. فيمكن إذن تلقي النص باعتباره مرثية، او ربما بالادا، او سيرة ذاتية ببليوغرافيا، او سيرة غيرية اوتو ببليوغرافيا..
8 يحتل البريد والمراسلات عب البريد أهمية في نصوص حسين عبد اللطيف منذ بواكيره حيث كان يبرق رسائله طوال منجزه السابق وما يزال، في شكوى دائمة ان البريد لم يعد يوصل رسائله كما يجب، فكان سابقا يقول:
“ماذا اسوي انا مع البريد”،
وهاهو الان يكرر:
“أنا يتيم بلا زهور/ أو رسالة مهملة الطابع” (ص31)،
ويكرر ان رسائله التي يبقها لا تصل إلى المرسلة إليه:
“الرسالة لم تصل” (ص52)،
“فأنت – والحق يقال قد ظللتَ/ كل سعاة البريد في هذا العالم/ فلم يفلح أي منهم/ في الاهتداء إلى عنوان لك” (ص 33)،
“فرسائلي إليك :
Nicht obgcholt
Hon reclame”
أي (لم يتسلمها احد)…
9 رغم ان مجموعة (أمير من أور) تبتدئ من مدينة أور التي غادرها جلجامش وانتهت بصرخة “أيها القبر كن زقورة” (ص 53)، إلا ان الشاعر كان يبث: عتباته الباذخة، وموجهاته القرائية من خلال حشد: العناوين، والأمكنة التي له فيها ذكريات مع المرثي؛ فمونمارتر، وهو شارع في باريس كان يسكنه الفنانون، يهيمن مرجعيةً مكانية في (أمير من أور)، فقد كان يؤثث نصه بحشد من أسماء الأمكنة والشخصيات التي تتعلق : بالرسم، والرسامين، وأسماء اللوحات، وأماكن لعبت دورا مهما في تاريخ الرسم الحديث..
10 رغم ان شعر حسين عبد اللطيف نبوءة بمنفى غير متحقق سيصير جزءا جوهريا من الشخصية العراقية بعد حين.. إلا ان المرثية تشي هنا بنزوع للامساك بفرح الحياة وانبهار بالحياة الأوربية الكافية لكبح الحزن