في بهو الحلة الوادعة، وعلى ضفاف الفرات، أبصر النور فتى قدّر له أن يكون واحدًا من أعلام الأدب والفقه في عصره، هو الشيخ محمد رضا بن أحمد بن الحسن النحوي. وُلد في القرن الثاني عشر الهجري، وترعرع بين دفتي العلم والورع، ينهل من معين والده العلوم الأولى، كالنحو والصرف والمعاني والبيان، قبل أن يشدّ رحاله إلى النجف الأشرف، حيث الحوزة الكبرى، والمواسم التي لا تُطفأ فيها قناديل الفكر.
في النجف، دخل الشيخ النحوي عوالم العلم من أوسع أبوابه، وتتلمذ على يد السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي، فنهل من معين فقهه وحديثه وأصوله، واحتل مكانًا خاصًا في مجلس أستاذه، حتى عدّه من الفطاحل الخمسة الذين كان السيد يعرض عليهم منظومته الفقهية “الدُرّة” فصلًا بعد فصل، يناقشهم في دقتها الشعرية وفقهها المعمق. وما أندر أن يجتمع في رجل موهبة الشاعر ونباهة الفقيه.
وبعد أن غيّب الموت السيد بحر العلوم، انتقل النحوي إلى حضرة الفقيه الكبير الشيخ جعفر الجناجي، صاحب كتاب “كشف الغطاء”، فصار له تلميذًا نجيبًا، يتابع السلوك نفسه: الجمع بين الإبداع البياني والتحقيق الأصولي، وبين وقار الحوزة ولهيب الشعر.
وكان للنحوي في ميدان الأدب صولة كبرى، تشهد عليها “وقعة الخميس”، وهي تلك المساجلة الشعرية التي شهدها عهد السيد بحر العلوم، فشارك فيها فحول ذلك العصر: السيد محمد زين الدين، والشيخ محمد بن الشيخ يوسف من آل محيي الدين، والسيد صادق الفحّام، وصاحب كشف الغطاء، والسيد بحر العلوم نفسه، والنحوي، الذي كان فارسًا لا يُجارى في هذه الموقعة. وقد سميت “وقعة الخميس” نسبةً إلى ما شاع من الظرف والمطايبة في ختامها، وجرت أحداثها في صفين. هذه الوقعة بقيت كنزًا أدبيًا، محفوظة في عدد من المجاميع العراقية المخطوطة، شاهدة على حيوية الحركة الأدبية في النجف آنذاك([1]).
وقد أنصفه المعاصرون، فقال عنه في البابليات:
“كان النحوي أكبر شعراء عصره بلا مراء، وأطولهم باعًا في النظم، وأنقاهم ديباجة، لا يجاريه أحد منهم في حلبة، وشعره رصين البناء، متين الأسلوب، وألفاظه محكمة الوضع، لا تكاد تعثر على كلمة مقتضبة في شعره، وقد جمع فيه بين الإكثار والإجادة، وقلّما اتفق ذلك لغيره”2.
ولعل هذه الشهادة وحدها كافية لتضعه في مصاف الكبار. غير أن النحوي لم يكن مجرد شاعر، بل كان ذا وفاء وعاطفة نبيلة. بعد وفاة والده، انقطع إلى ملازمة السيد صادق الفحّام، الذي أصبح له أبًا ثانيًا ومربّيًا حانيًا. وقد انعكس هذا الوفاء في مساجلاتهما الشعرية المثبتة في ديوانيهما، حيث كان السيد يخاطبه بـ “الولد الأكرم” أو “الأديب العارف الكامل”، فيما ظلّ النحوي يحفظ له تلك اليد، فيشكرها في حياته وبعد وفاته، في موقف نادر الوُقوع في سِيَر العلماء.
ذكره صاحب روضات الجنّات في خاتمة ترجمته للسيد بحر العلوم، وعبّر عنه بـ”الشيخ محمد رضا النجفي”، وأشار إلى مرثيته في أستاذه، واكتفى بنقل بيتها التاريخي:
قد غاب مهديّها جدًّا وهاديها” (1212هـ) ، وهو بيت واحد حمل تاريخ الرحيل وعمق الفقد.
هكذا تتقاطع في سيرة الشيخ محمد رضا النحوي ملامح العالِم، والشاعر، والتلميذ البار، والأديب المشارك في صناعة الذائقة، في زمنٍ كانت فيه النجف لا تُعطي مجدها إلا لمن طوّع الكلمة كما يُطوّع الفقيه نصّه، وها هو النحوي قد جمع بينهما، فأجاد.
كتب اليه الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء رسائل منها :
يكلّفُني صحبي القريضَ وإنّمــا تجنبْــتُ عنه لا لعجـــــــــزٍ بدا منّي
ألم يعلموا أن الكمالَ بأسْــــــــرِهِ غدا داخلاً في حَوزتي صادراً عنّي
ألم تر مولانا الرضا نجلُ أحمدٍ إذا قالَ شِعْراً لم يُحَكِّم سوى ذهني
على أنّه للفضلِ قطبٌ وللنُهـى مدارٌ وفي الآدابِ فاقَ ذوي الفـنِّ
غدا في الورى رباً لكلّ فضيلة وحاز جميل الذكر في صغر السنِّ
فأجابه الشيخ محمد رضا على الروي والقافية :
ألا أيّها المولى الذي ســـــارَ ذكــــــرُهُ مسيرَ الصَّبا قدْ عَبَّقَتْ سائرَ المُــدْنِ
ومَن كلّما اعتاصتْ وندّتْ عويصةٌ وأعيتْ على الأفهامِ كانَ لها مُـــــدْني
إذا نحنُ أثنيـــــــــنا عليـــكَ فإنّمـــــــــــــا يعودُ علينـــــا ما علــــــيكَ به نُثنـــــــــي
ونعنيكَ بالذكـــــرِ الجميلِ فينتهـــــــي إلينا كأنـــــّا فيـــــه أنفسَنــــــا نعنـــــــــــــي
أتاني نظامٌ منكَ ضِـــــمْنَ ألوكــــــــةٍ يفوقُ نظامَ الدُّرّفي النظــمِ والحـــسنِ
نظمتَ النجومَ الزاهـــــــراتِ قلائِـــــداً وقلّدتَنيها مـــنك مَنــــاً بــــــلا مَــــــــــــــنّ
ألذّ على الأسماعِ مِن طَرَبِ الغِنــا وأحلى على ذي الخوفِ من واردِالأمنِ([2])
ومن شعره في الغزل والنسيب قوله :
ذكرتُ ليالياً سلفَت بجمــــــعٍ فبتّ لذكرِها شَرِقاً بدمعـــــــــــــــــي
وأذكرُ مِن نسيمِ رياضِ نـــــــــجدٍ معاهدَ جيرةٍ نزلوا بِسَـــــــــــــــــــلْعِ
وأومضَ بارقٌ في الجزعِ وهْناً يُتَرْجِمُ عن قلوبٍ ذاتِ صـــــدعِ
وغرّد طـــــائرٌ يُمـــــلي حَديثـــــــــا فعذَّبَ خاطري وأراحَ سَمْعِــــــــي
بجمــعٍ لـــو تعطَّفــــــْتُم قلـــــــــوبٌ تبدَّدَ شملُها مِن بعدِ جَمْــــــــــعِ
فمـــنُّوا واصـــلين عقــــيبَ هجرٍ وجودوا منعِمين عقــيبَ منعِ
وكتب الى صديق له :
سلامٌ عليكم والمفـاوزُ بيننـــــــــــــــــا وبالرغـــــــمِ منّي مِن بعيدٍ أســـــــــــــلّمُ
فإنْ لم يجئني بالسلامِ كتابكُـــــــــم فإنــــــــي راضٍ بالســـــــــلامِ عليكـــــمُ
أأحبابَنا والمرءُ ياربّما ارعــــــــــــوى وأغمــــــــضَ والأحوالُ عنه تُتَرْجِــــمُ
ألِفناكُمُ والشوقُ يلعبُ بالحَشـــــــا ويُبْــدي الذي يُخفي الضميرَويكتمُ
وعشنا بكم والعيشُ غضٌّ نباتُــه رقيــــقُ الحواشي ناعمُ البُرْدِ معلــمُ
إذ الظلُّ دانٍ والأحــــبّةُ جيــــــــــــــرةٌ ودهــــريَ سلمٌ والحـــــــوادثُ نـــــــــوّمُ
وفزْنا بأفعالٍ كـــما رُويتْ لنـــــــــــا (تصدّقُ ما تَروي الخلائقُ عنكمُ)
(تباعَدْتُم لا أبعــدَ اللهُ دارَكـــــم ) وقوّضْتُـــــــــمُ والذِكْرُ مِنْكُمْ مخيّـــــــــمُ
وفارقتُـــــمُ لا قـــــدَّرَ اللهُ فرقـــــــــــةً ( وأوْحشتـــــمُ لا أوحشَ اللهُ منكمُ )
وللنحوي يد طولى في نظم التواريخ في الحروف الأبجدية وليس الغرض المقصود من التاريخ ضبط عدد السنين من الحروف فقط وإنما الغرض إيداع النكتة فيه أو التورية التي تدل على الموضوع وتواريخ النحوي كلها لا تخلو من هذه المحسنات التي ألمعنا اليها فمنها ماقاله في ختان العلامة الشيخ موسى بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء واتفق ان الخاتن له يدعى (عبد الرحمن) :
تطهّرَ موسى بالختانِ وانـّــــــه فتى طاهرٌ مِن طاهـــــــــرٍ متطهـّـرُ
وما كانَ محتاجاً لذاكَ وانّمـــا جرت سنّةُ الهادي النبــيِّ المطهّرِ
هنالك قد أنشدتُ فيه مؤرخاً لقد طهّر الرحمنُ موسى بنُ جعفرِ
(1198ه)
وقوله في آخر قصيدته التي رثى فيها السيد سليمان الكبير يؤرخ عام وفاته :
وتسعةُ آلِ اللهِ وافوا وأرّخـــــــوا سليمانُ أمسى في الجِنانِ مخَلّــدا (1211ه)
ولا يخفى حسن التورية فيه فإن مادة التاريخ تنقص في العدد (9) فأكملها بتلك الجملة الظريفة مشيراً فيها الى عدد اسماء الأئمة من ذرية الحسين (عليه السلام) الذين ذكرهم أبن العرندس بقوله :
وذريّة دريةٌ منهُ تسعةٌ أئمةُ حقّ لا ثمانٌ ولا عشرُ
“وكان مولعا في التخميس والتشطير مبدعا في كلا النوعين غاية الإبداع ، وقد ذكر تخاميسه شيخنا الجليل في (ال ج4 من الذريعة) كتخميس العرفانية الميمية لعمر بن الفارض في بيان راح العشق وخمر المحبة وهو مطبوع مع تخميس البردة و(بانت سعاد) في الاستانة ، وقد نقلت تخميس البردة مع مقدمة المخمس قبل نيف وثلاثين سنة عن مجموعة معاصره السيد جواد بن محمد زيني الحائري وقد فرغ النحوي من نظمه في الـ (24 من رجب سنة 1200) ومنه :
مالي أراكَ حليفَ الوجدِ والألــــــــــــــــمِ أودى بجسمِكَ ما أودى مِن السقمِ
ذا مدمعٍ كالدمِ المنهلّ منسجــــــــــــمٍ أمِنْ تــــــذكّرِ جيرانٍ بذِي سَلَــــــــــــــــــــمِ
مزجتُ دمعاً جرى مِن مقلةٍ بدمِ
أصبحتُ ذا حسْرةٍ في القلبِ دائمةٍ ومهجةٍ إِثْرهم في البيدِ هائمـــــــــــةٍ
شجاكَ في الدوحِ تغريـــــدٌ لحائمـــةٍ أم هبّت الريحُ مِن تلقــاءِ كاظمــــةٍ
وأومضَ البرقُ في الظلماءِ مِن أضمِِ
وقد قرظ هذا التخميس جماعة من العلماء منهم استاذه السيد صادق الفحام وممن قرظه السيد ابراهيم العطار وقرظه السيد محمد علي الأعسم وقرظه أخوه الهادي النحوي بقصيدة وخمّس أيضا (الدريدية) ذات الشروح الكثيرة المشتملة على الحكم والآداب وتبلغ (229) بيتاً لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي البصري المتوفى سنة 321 خمّسها النحوي وجعل لها مقدمة بدأ فيها بترجمة ابن دريد وذكر تخميس المقصورة لموفق الدين عبد الله بن عمر الأنصاري في رثاء الحسين (عليه السلام) ذكره النحوي وأثنى عليه ، ولكن النحوي حولها في تخميسه الى مدح استاذه السيد بحر العلوم وفرغ من تخميسها في 12 ربيع الأول سنة 1212 وتوفي أستاذه الممدوح في رجب من تلك السنة ،[ قلت وقد طبع الأصل مع التخميس في بغداد سنة 1344 … وممن خمسها أيضاً الشيخ موسى محيي الدين ، وهي ضمن ديوانه الذي حققته وطبع أيضاً] ومن تخميس النحوي:
يقضِي الفتى نحباً ويأوي لحدَه ويذكرُ الناسُ جميعاً عهدَهُ
ينشر كل ذمِّه أو حمــــــــــــــــــــدِه وإنما المرءُ حديث بعـــــــــــدَهُ
فكنْ حديثاً حسَناً لمَن وعــــــــى
….ووجدت قصيدة ميمية غراء للشيخ أحمد بن محمد أحد تلامذة العالم السيد شبر الموسوي الحويزي يمدح فيها استاذه المذكور – ضمن كتاب ألفه في سيرته – وعلى هامشها تقريض بقلم النحوي المترجم من الوزن والروي ومن خطه نقلت ما نصه : قال العبد الحقير محمد رضا بن الشيخ أحمد النحوي مقرضاً على هذه القصيدة المباركة :
أَكْرِمْ بنظمٍ يروقُ الناظرينَ سنـــــــــــــــــاً كأنّ عِقْدَ الثريّا فيهِ مُنْتَظَــــمُ
أضحى لأحمدَ في ذا العصرِ معجزةً على نبوّةِ شِعْرٍ كلّـــــه حِكَـــــمُ
وله من قصيدة طويلة يهنئ فيها استاذه السيد بحر العلوم ويؤرخ عام قدومه من مكة :
أُعيدُ من الحمدِ المضاعَفِ ما أُبدي وأَهــــدي الى المهديّ مِن ذاك ما أُهدي
ولو انني أهديتُ ما ينبــــغي لــــــهُ لسقتُ له ما في المثاني من الحمـدِ([3])
[1] – لمزيد من المعلومات وما دار في (معركة الخميس ) ينظر : رسالتي للدكتوراه (المعارك والخصومات الأدبية في العراق في القرون الثلاثة الأخيرة 1700-2000وأثرها في الحركة الأدبية ، دار الشؤون الثقافية العامة ، من إصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية ، بغداد ، 2013) فقد كان الفصل الأول منها في معركة الخميس ، وقد ذكرت فيه نصوص المعركة كلها ومن ضمنها قصيدة الشيخ محمد رضا النحوي الذي كان قد اشترك في المعركة ، :23-110.
([2] ) تاريخ الحلة : 2/177-182
([3] ) البابليات :2/3-17 ، ويبدو ان كثيرين من شعراء تلك الحقبة أو الحقبة التي أعقبتها قد تصدوا الى تخميس القصيدة الدريدية ، فعند تحقيقي ونشري لديوان الشيخ موسى محيي الدين (ت1281ه)، وجدت بخطه تخميسا له لدريدية ابن دريد ، وحققته ونشرته ضمن الديوان ، وقد قرضه جماعة من العلماء والأدباء ، ينظر : ديوان الشيخ موسى محيي الدين ، تحقيق وتقديم د. محمد حسن محيي الدين ، مطبعة الأدباء ، النجف الأشرف ، 1430هـ/2009م :101-126 . ويمكنني أن أقول ان تخميس الشيخ موسى ذا فنية عالية يقصر عنها تخميس الشيخ النحوي .