يمثل هذا المقال نموذجًا مميزًا من نماذج الشعر النجفي، المتمثل بالشاعر محمد علي ابن الشيخ حسين ابن الحاج محمد الأعسم الشهير النجفي.
ولادته في مدينة النجف الأشرف سنة (1154ه) نشأ في مدينة النجف ودرس فيها منهم السيد مهدي بحر العلوم(ت1212ه)، والشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت1228ه)، وهو من أحد اعلام النجف وفقهاءها، وكان له شعرًا كثيرًا في أهل البيت عليهم السلام، وكان من المقربين للسيد مهدي بحر العلوم([1])، وإنَّنا لنلتمس الشخصية الشعرية المتمثلة بالتناص في شعر الشاعر محمد علي الأعسم في مدحة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كما هو مبين في ديوانه.
التناص القرآني في شعر الشاعر محمد علي الأعسم:
تظهر تجليات الشخصيات الدينية العليا في شعر الشاعر محمد علي الأعسم بتوظيف التراكيب القرآنية بصيغة فنية جديدة حتى يُظهر فنَّنًا إبداعيَّا يجعلنا نُدرك مدى اتساع قدرة الشاعر للتلاعب في الكلمات، وهو مما تتجلَّى فيه الصورة الفنية الإبداعية للشاعر، فيعمد إلى التناص الحركي وهو من أعلى قمم الإبداع ولا يمتهنه إلَّا الشاعر الذي بلغ من هذا الفن ما بلغ من امتلاك أدواته، فالتناص الحركي الذي عمِد إليه الشاعر له: ((خصيصة أسلوبيّة تقوم على مجاراة النصّ الشعريّ للنصّ القرآنيّ، ومن ثمّ الانحراف إلى مقصديَّة مختلفة))([2])، وفي هذه الحالة يستثمر الشاعر النص القرآني بخصائص متعددة حسب توجهاته الفكرية والعقائدية، فنجد الشاعر يتتبع كل صغيرة وكبيرة في النص القرآني حتى تُوظف الكلمات والحروف في شعره دون مطابقة للنص، عندها يكون الشعر صناعة يمتهنها الشاعر أبلغ امتهانًا، فيحاكي الشاعر لغة الأصل([3]).
فالحركية تكمن بصياغة النَّص من واقعه الأول إلى واقع جديد باستثمار كلماته وتراكيبه، ونلتمس ذلك الإبداع في شعر الشيخ محمد علي الأعسم عند قوله:
جَعَلوْا الَّذيْ قدْ كانَ نفْسَ نَبيَّهُمْ … هوَ نفْسُ خَالقِهم تعالى الخالِقُ([4])
ضلَّتْ خلائِقٌ في عليٍّ مثْلَ ما … ضلَّتْ بعيْسى قبْلَ ذاكَ خلاْئِقٌ([5])
يمدح الشاعر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من وجهين، ففي البيت الأول يُشير بإيماءة من قبله إلى آية المباهلة عند قوله تعالى: تَعالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ([6])، فأراد الشاعر أنْ ينقل المكانة السامية لشخصية أمير المؤمنين في القرآن الكريم التي وردت في آية المباهلة وذلك بذكر خصائص امتاز بها أمير المؤمنين، وهو مما يُنبه على قدرة الشاعر وحكمته في فهم النص لآية المباهلة التي جعلت نفس النبي محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم هي نفس علي بن أبي طالب.
ثُم يأخذ الشاعر منحى آخر وهو قضية المغالاة في شخصية الإمام علي؛ إذ جعله القوم إلهًا وذلك بقوله: (جَعَلوْا الَّذيْ قدْ كانَ نفْسَ نَبيَّهُمْ … هوَ نفْسُ خَالقِهم تعالى الخالِقُ)، فجعلوا نفس النبي في آية المباهلة هي نفس الإله الخالق ثُم يتصل مفهوم هذا البيت المتقدم بالبيت التالي له وهو قوله: (ضلَّتْ خلائِقٌ في عليٍّ مثْلَ ما … ضلَّتْ بعيْسى قبْلَ ذاكَ خلاْئِقٌ)، فيكون البيت أكثر وضوحًا للقارئ في اتصال المعنى بين البيتين، فالشاعر في هذين البيتين يُثير ثلاث مسائل مهمة وهي: إنَّ الإمام علي يُمثل شخص الرسول محمد صلوات الله عليه، والثانية هي المغالاة بشخص الإمام حتى يجعلوه بفكرهم إلهًا وحاشا لأمير المؤمنين إلَّا أنْ يكون عبدًا لله، أمَّا المسألة الثالثة وهي أنَّ هؤلاء الناس قد ساروا على خُطا مَن سبقهم في المغالاة بنبي الله عيسى، وذلك عند قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ([7])، وكذلك ورد في نصٍّ مقدَّسٍ آخر إشارة إلى اتخاذ عيسى مِنْ قِبل قومه إلها في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ([8])، وهو تشابه لما حلَّ فيما بعد للمغالين في شخص أمير المؤمنين، فهنا نجد عُمقا فكريا قد جمع فيه الشاعر بين مجموعة من المسائل مَنْ مدح شخص أمير المؤمنين وهو نفس النبي محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم من جهة وبين مسألة المغالاة في شخصية الإمام وتشبيه ما كان من القوم في المغالاة بشخص أمير المؤمنين بما حدث مع النبي عيسى بن مريم، فحكم الشاعر هُنا: ((هو الفهم للتوراة والفقه في الدين))([9])، وهذه التفاتة تُحسب للشاعر وهو يذكر خصال أمير المؤمنين عند مدحه له حتى صار من الواضح أنَّ الشاعر قد صنع حركة كُبرى في نصِّه الشعري وهو جمعه بين مسألة المدح لشخص أمير المؤمنين وبين ذكر قضية فقهية وإظهار حُرمتها وذلك عند توجيه القارئ لنصوص قرآنية لم تتجاور، وغير موجَّه للممدوح، فهو يؤكد ((قدرته على تدعيم شعره بالآيات القرآنيّة وهو ممّا يدلّ على معرفة وتجربة في فهم القرآن))([10])، فهو يستدعي فهما عميقا للقارئ؛ إذ: ((لا يمكن كشف التناصّ إذا كان المتلقي غير عالم بالتداخلات النصّيّة بين النصوص وكذلك درجة قرابتها ببعضها))([11]).
إنَّ التكثيف الذي اتبعه الشاعر في صياغة المعاني العليا عند ذكر خِصال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ومكانته من رسول الله وتشبيه موقف المجتمع منه بموقف مِنَ المغالين بعيسى بن مريم بإشارة فنية رائعة إلى نص القرآن الكريم، فالتناص أخذ طابعا عميقا عندما صار تناصّا حركيا في قوله: ( نفس نبيهم، ونفس خالقهم، وضلال القوم في علي كما ضلالهم في مغالاة عيسى بن مريم).
المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم
- التناص في شعر الرواد، أحمد ناهم، دار الشؤن الثقافية العامة، العراق- بغداد ط:1-2004.
- ديوان العلامة الشيخ محمد علي الأعسم، ت: عبد الرزاق الأعسم، مؤسسة النبراس للطباعة والنشر والتوزيع النجف الأشرف.
- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (ت538هـ)، دار الكتاب العربي – بيروت، ط3- 1407 هـ
- اللآلئ العبقرية في شرح العينية الحميرية، بهاء الدين الأصبهاني، تقديم جعفر السبحاني، مؤسسة الإمام الصادق، قم إيران، 1421ه، ط1.
[1]() ظ: ديوان العلامة الشيخ محمد علي الأعسم، ت: عبد الرزاق الأعسم: ص9 وما بعدها.
[2]() خصائص الأسلوب في شعر المديح عند السّيّد الحِميريّ: 101.
[3]() ينظر الثابت والمتحول بحث في الإبداع والإتباع عند العرب: 1/111.
[4]() ديوان العلامة الشيخ محمد علي الأعسم:19
[5]() المصدر نفسه.
[6]() سورة آل عمران، من ألآية:61.
[7]() سورة النساء، آية:171.
[8]() سورة المائدة، آية:116.
[9]() تفسير الكشاف:3/8.
[10]() اللآلئ العبقرية في شرح العينية الحميرية: ص51.
[11]() التناص في شعر الرواد:7-8.