المقدّمةلغة المال والأعمال، حالها حال أي مجال آخر، تطورت بشكلٍ متسارع حتى تحوّلت من أرقامٍ وحساباتٍ مصرفية جامدة إلى منظومةٍ رقمية معقّدة تتحكم بها خوارزمياتٌ عابرةٌ للحدود. ومع دخول التكنولوجيا في عمق العمليات المصرفية والمالية، تغيّر مفهوم “المال” نفسه من ورقةٍ مادية إلى بياناتٍ تُدار عبر شبكاتٍ سيبرانية فائقة السرعة. لم يعد المال مجرّد وسيلة للتبادل أو الاستثمار، بل أصبح سلاحاً سيادياً بيد الدول المستقلة، ووسيلة ضغطٍ تستخدمها القوى الكبرى لتوجيه الأسواق وفرض إرادتها السياسية والاقتصادية. ففي زمنٍ تُدار فيه الثروات بالخوارزميات، وتُشنّ فيه الحروب بأزرارٍ رقمية، لم تعد السيادة تُقاس بالحدود الجغرافية ولا بعدد الدبابات والطائرات، بل بقدرة الدولة على حماية بياناتها المالية، وضمان استقلال بنيتها المصرفية، والتحكم في تدفقات أموالها عبر القنوات الدولية. في هذا السياق، تتغير موازين القوة في العالم الحديث ليس بامتلاك السلاح، بل بامتلاك ما يمكن تسميته «لغة المال العالمية» وهي اللغة التي تُكتب بها أوامر التحويلات، وتُقرأ بها خرائط النفوذ الاقتصادي. تلك اللغة تُعرف باسم SWIFT، النظام الذي يمثل اليوم العمود الفقري للتجارة والتمويل العالمي، والذي يجعل من كل دولةٍ متصلة به جزءاً من المنظومة المالية الدولية، ومن كل دولة خارجه كياناً شبه معزولٍ اقتصادياً هنا يبرز السؤال الجوهري: أين يقف العراق من هذه الخريطة؟ وهل يمكن أن يتحول من مستخدمٍ تابعٍ لمنظومة مالية مفروضة إلى فاعلٍ سياديٍ يمتلك أدواته البنكية وشبكته الخاصة في عالمٍ تتداخل فيه التكنولوجيا بالسيادة، وتتشابك فيه البرمجيات مع القرار الوطني؟ من هذه النقطة تبدأ رحلة هذا المقال: من SWIFT إلى السيادة الرقمية، ومن التبعية التقنية إلى الاستقلال المالي – خريطة الطريق لبنية مصرفية عراقية سيادية مستقلة. المحور الأول: SWIFT كلغة المال العالمية ما هو SWIFT ؟ اليوم تمر عبر شبكته عشرات الملايين من الرسائل يومياً، وقد سجل عام 2023 متوسط نحو 47.6 مليون رسالة FIN يومياً، وارتفع المتوسط إلى نحو 53.3 مليون رسالة يومياً في 2024، ما يبيّن حجمه بوصفه لغة المال العالمية. كيف يعمل؟· لا ينقل SWIFT الأموال فعلياً، بل ينقل التعليمات رسائل الدفع بين البنوك. ·لكل بنك عضو رمز SWIFT/BIC يعمل كعنوان على سبيل المثل رمز TRIQIQBA يخص بنك التجارة العراقي TBI · عند إرسال تحويل من بنك عراقي إلى بنك أوروبي مثلاً، تُرسل رسالة عبر الشبكة المشفّرة، ثم تُنفّذ العملية فعلياً عبر حسابات المراسلة بين البنوك. المعايير والتحديثاتيعتمد SWIFT انتقالاً عالمياً إلى معيار ISO 20022 الأكثر ثراءً بالبيانات، مع انتهاء فترة التعايش بين الرسائل القديمة (MT) والجديدة في نوفمبر 2025، وتوافقات رئيسية مثل انتقال Fedwire الأميركي في مارس 2025. المحور الثاني: SWIFT… الأداة التقنية التي أصبحت أداة سيادةمن شبكة مراسلات مالية إلى نفوذ جيوسياسي أنشئ SWIFT لتسهيل المراسلات المالية، لكنه تحوّل تدريجياً إلى رافعة نفوذ بيد القوى الكبرى. حين فُصلت بنوك إيران عن الشبكة عام 2012، انكمشت التجارة والنشاط المالي الخارجي بشكل حاد، وقدّرت دراسات مرجعية أن إيران فقدت قرابة 50% من إيراداتها النفطية و30% من تجارتها الخارجية بسبب القيود المرتبطة بالوصول إلى منظومة المدفوعات العالمية. وعندما فُرضت القيود على مصارف روسية في 2022 عقب غزو أوكرانيا، شُلّ جزء من تعاملاتها الدولية وأُعيد تشكيل قنوات المدفوعات العابرة للحدود ضمن حزمة عقوبات أوروبية ودولية واسعة. الخلاصة: من يملك مفاتيح الشبكة يملك مفاتيح الاقتصاد؛ يمنح النفاذ أو يمنعه. ولذلك لا يمكن لبلدٍ بحجم وموارد العراق أن يبقى مستخدماً تابعاً داخل منظومة لا يملك قرارها. المحور الثالث: العراق في شبكة SWIFT بين الارتباط المالي والقيود السياديةالصورة الراهنة وأثرها على القرار المالي ·الانخراط في SWIFT موجود: مصارف عراقية تمتلك رموز SWIFT وتُجري عمليات تحويل دولية (مثل TBI – TRIQIQBA)، وهذا يثبت الاتصال بالشبكة. لكن امتلاك رمز لا يعني بالضرورة امتلاك علاقات مراسلة واسعة بكل العملات والأسواق أو حرية غير مقيدة في التسويات. ·قناة الدولار: جزء كبير من تدفقات الدولار مرتبط بإجراءات وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي الأميركيين. وشملت التطورات حظر أو تقييد تعامل بنوك عراقية بالدولار لأسباب تتعلق بالامتثال ومكافحة غسل الأموال، كما ورد في تقارير Reuters (فبراير 2025) وWall Street Journal (سبتمبر 2024). ·أثر القيود على السيادة المالية: تشديد الرقابة الأميركية على نافذة الدولار في العراق منذ 2022–2023 قيّد الوصول إلى العملة الصعبة وفرض إعادة ضبط لقنوات التحويل، مع تداعيات في سعر الصرف والسوق الموازي بحسب تقارير موثوقة (AP News). الخلاصة العملية: العراق متصل بالشبكة لكنه غير مستقل في تشغيل قنواتها؛ نستخدم اللغة، لكننا لا نملك القلم الذي يكتب بها. المحور الرابع: من النقد الورقي إلى النقد السياديالانتقال من المال المطبوع إلى المال المُبرمج (CBDC) يتجه العالم نحو العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDC) كطبقة نقدية سيادية تُحاكي خصائص النقد التقليدي وتستفيد من مزايا الرقمنة. ·الصين (e-CNY): أوسع تجربة CBDC في العالم، توسعت عبر مدن عديدة، وشملت الاستخدام في هونغ كونغ (مايو 2024)، مع نمو كبير في حجم المعاملات بين 2023–2024. ·روسيا (الروبل الرقمي): إطار قانوني نافذ منذ يوليو 2023، وتجارب تشغيلية مرحلية مع خطة تبنٍّ واسع النطاق خلال 2025. ·حالة الدنمارك: البنية أولاً… ثم العملة لم تُصدر الدنمارك حتى الآن «كرونة رقمية» (Digital Krone) مثل الصين أو روسيا، لكنها اختارت مساراً استراتيجياً مختلفاً يقوم على تحديث البنية التحتية للدفع أولاً قبل التفكير في أي شكل من أشكال النقد الرقمي السيادي. في عام 2024، أعلن البنك الوطني الدنماركي (Danmarks Nationalbank) بالتعاون مع البنك المركزي الأوروبي (ECB) عن دمج الكرونة الدنماركية ضمن أنظمة الدفع الأوروبية T2 وTIPS بحلول 2025. وهذا الدمج يعني أن الكرونة ستُدار وتُسوى عبر شبكة أوروبية موحّدة للمدفوعات اللحظية (Instant Payments)، بنفس البنية التقنية التي تُستخدم في منطقة اليورو. هذا القرار يعكس رؤية دنماركية محافظة ترى أن النجاح في التحول النقدي الرقمي لا يبدأ بإطلاق العملة الرقمية نفسها، بل بتأمين البنية التحتية الموحدة والمترابطة أولاً أي شبكات الدفع، معايير الرسائل (ISO 20022)، وأنظمة التسوية الفورية. النتيجة:تُظهر التجربة الدنماركية أن الاستقلال النقدي لا يُقاس بسرعة إطلاق العملة الرقمية، بل بقدرة الدولة على تحديث وإدارة بنيتها التحتية المالية داخلياً، وهو درس بالغ الأهمية للعراق قبل التفكير في الدينار الرقمي. المغزى للعراق:النقد السيادي الرقمي (Digital Dinar) ليس مشروعاً برمجياً فحسب، بل مؤسسة سيادية تعزز الشمول المالي وتخفض كلفة المدفوعات وتزيد الشفافية، بشرط أن تُبنى على مراكز بيانات وطنية وبروتوكولات تشفير وخزائن مفاتيح تحت ولاية عراقية كاملة. المحور الخامس: من SWIFT إلى Iraqi Financial Net (IFN)بناء طبقة سيادية داخل النظام العالميتعريف موجز: الفكرة: إنشاء شبكة مراسلات مصرفية وطنية تعمل وفق ISO 20022 وتتصل خارجياً عبر بوابة عراقية. هذا ليس انفصالاً ، بل طبقة سيادية تضبط التدفق، كما فعلت دول أخرى: · SPFS / روسيا: نظام رسائل مالي محلي يعمل 24/7/365 ويُكمل المراسلات عبر علاقات المراسلين عند الحاجة.· CIPS / الصين: نظام تصفية وتسوية باليوان عبر الحدود، أكبر من كونه مراسلات فحسب.· SFMS / الهند: معيار رسائل مالي وطني يربط تطبيقات المدفوعات والبنى الداخلية.خارطة التنفيذ في العراق (ثلاث مراحل)تم حجبها من المقال لانها دراسة مستقلة بحد ذاتها . المحور السادس: الأمن السيبراني كدرع للسيادة الماليةمن حماية المال إلى حماية الثقة الهجمات على المصارف تستهدف الثقة قبل المال؛ والثقة هي عملة النظام المالي. لذا: · تأسيس مركز وطني للأمن المصرفي (Banking SOC) يعمل 24/7 لمراقبة سجلات المدفوعات، الاكتشاف المبكر، وإدارة الحوادث. · تعزيز الاستخبارات التهديدية (CTI) بمغذيات من مزودي الامتثال والعقوبات العالمية ومنظومات ISO 20022 الغنية بالبيانات. ·إقرار قانون سيادة البيانات المالية (Banking Data Sovereignty Act) لفرض توطين بيانات المعاملات داخل العراق، ومنع التخزين/المعالجة خارج الحدود إلا بترخيص سيادي قابل للتدقيق. · مواءمة إلزامية مع ISO 27001 و PCI DSS في مراكز البيانات المالية الوطنية والخاصة ببطاقات الدفع. · سيادة المفاتيح (KMS/HSM): توطين إدارة مفاتيح التشفير في خزائن أجهزة HSM وطنية تحت ولاية البنك المركزي، ومنع استضافة المفاتيح خارج الحدود. المحور السابع: نحو نموذج عراقي للسيادة المالية الرقميةثلاث ركائز للاستقلال المالي الوطني 1.سيادة المعاملات: تشغيل IFN كقناة الرسائل الداخلية الافتراضية بدل الاعتماد الكامل على مراسلين خارجيين. 2.سيادة البيانات: إدارة مراكز البيانات المالية داخل العراق بإشراف البنك المركزي وهيئة مستقلة للامتثال. 3.سيادة الربط: إنشاء سحابة مالية وطنية (Iraqi National Financial Cloud) تستضيف خدمات البنوك والامتثال والمخاطر، وتكون قاعدة لإطلاق الدينار الرقمي العراقي (Digital Dinar) لاحقاً للتسويات المحلية الآمنة. الفرصة التاريخية للعراق·يتحوّل العالم من مراسلات مشتتة إلى بنى سيادية رقمية. ·امتلاك IFN اليوم يعني التحكم في تدفق المال غداً. ·من يسبق في بناء طبقته الوطنية سيحكم لغته المالية، ومن يتأخر سيكتب رسائله بقلم الآخرين. المحور الثامن: تطوير النظام المصرفي كأولوية وطنيةالإصلاح المالي = إصلاح سيادي الإصلاح المطلوب ليس مشروعاً تقنياً؛ إنه مشروع سيادي لحماية القرار المالي: ·تحديث التشريعات لتقنين IFN والبوابة السيادية والامتثال الموحد. ·بناء كوادر في الأمن السيبراني والحوكمة الرقمية والامتثال الدولي. ·توسيع مفهوم الامتثال (Compliance) ليشمل الأمن الوطني بجانب الامتثال المالي البحت. ·إلزام كل بنك بالاندماج في المنظومة السيادية IFN + السحابة المالية الوطنية بدل بيئات مشتتة وبرمجيات أجنبية غير موحدة. الخاتمة: من لا يملك خوادمه لا يملك قرارهإنّ السيادة المالية لا تُقاس بحجم الاحتياطي أو عدد الأوراق النقدية المطبوعة، بل بمن يمتلك السيطرة على البنية الرقمية التي تحمي تلك الثروة وتدير حركتها. فمن يعتمد على أنظمة الآخرين سيُقاد بقراراتهم، أما من يُشيّد بنيته السيادية الوطنية فسيكتب بنفسه قواعد اللعبة المالية، ويمسك بزمام أمواله وقراره معاً. في عالمٍ أصبحت فيه الخوارزميات أقوى من الجيوش، والأكواد هي المفاتيح الجديدة للنفوذ، لا مكان لدولةٍ لا تملك سيادتها التقنية والبيانية. إنّ الطريق من SWIFT إلى السيادة الرقمية ليس مجرد مشروع مصرفي أو قطاعي، بل مشروع دولةٍ تسعى لاستعادة قرارها المالي وحماية ثروتها الرقمية. ونافذته التاريخية ليست غداً… بل الآن. المصادر1.تقرير SWIFT السنوي لعام 2023: 2.البنك الوطني البلجيكي (National Bank of Belgium): 3.SWIFT – الانتقال إلى معيار ISO 20022: 4.تقرير بنك J.P. Morgan: 5.رمز SWIFT الخاص ببنك التجارة العراقي (Trade Bank of Iraq): 6.مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي (Carnegie Endowment): 7.مجلس الاتحاد الأوروبي (EU Council): 8.مرصد الاقتصاد (Economics Observatory): 9.وكالة رويترز (Reuters) – 16 شباط / فبراير 2025: 10. صحيفة وول ستريت جورنال (The Wall Street Journal) – أيلول / سبتمبر 2024: 11. وكالة أسوشيتد برس (AP News): 12. البنك المركزي الصيني (People’s Bank of China) – وكالة رويترز – ومرصد Atlantic Council لتتبع العملات الرقمية (CBDC Tracker): 13. قانون الروبل الرقمي والوثائق الفنية من بنك روسيا (Bank of Russia): 14. البنك المركزي الأوروبي (ECB) والبنك الوطني الدنماركي (Danmarks Nationalbank) – آذار / مارس 2024: 15. بنك روسيا – نظام SPFS: 16. النظام الصيني CIPS (Cross-Border Interbank Payment System): 17. النظام الهندي SFMS (Structured Financial Messaging System): |


