بريطانيا وعودة النفوذ الناعم في العراق: بين دعم الجالية واستعادة الدور المفقود

بريطانيا وعودة النفوذ الناعم في العراق: بين دعم الجالية واستعادة الدور المفقود
تحاول بريطانيا تعزيز نفوذها في العراق عبر نخب عراقية مزدوجة الجنسية، لحماية مصالحها الاقتصادية والمساهمة في التوازن الإقليمي، مستفيدة من النفوذ الناعم والدبلوماسية غير المباشرة، رغم تعقيدات البيئة السياسية العراقية والمنافسة الأمريكية والإيرانية....

منذ العام 2003، ظلّ المشهد العراقي ساحةً تتنازعها القوى الدولية، حيث تصدرت الولايات المتحدة الواجهة العسكرية والسياسية، بينما بقي النفوذ البريطاني باهتاً مقارنة بماضيها الاستعماري في العراق خلال القرن العشرين. لكن المراقبين يرصدون في الآونة الأخيرة مؤشرات متزايدة على عودة بريطانيا إلى الساحة السياسية العراقية، ليس عبر التدخل العسكري المباشر أو النفوذ الأمني، بل من خلال دفع العراقيين من مزدوجي الجنسية أو الحاصلين على الجنسية البريطانية إلى الانخراط في العملية السياسية.

أدوات النفوذ البريطاني في العراق

يُطرح هنا سؤال مركزي: هل تسعى بريطانيا لإعادة بسط نفوذها التقليدي في العراق على حساب الدور الأمريكي؟

البعض يرى أن لندن تحاول فعلاً استثمار حالة التراجع النسبي للنفوذ الأمريكي بسبب الانشغال في ملفات أخرى كأوكرانيا والصين، وكذلك تنامي النفوذ الإيراني. ومن ثم، فإن إعادة تدوير النخب العراقية الحاصلة على جنسيتها يمثل أداة ناعمة لتعزيز الحضور البريطاني في دوائر القرار العراقي. فهذه النخب غالباً ما تحمل خلفية أكاديمية أو سياسية مرتبطة بالمجتمع البريطاني، وتُقدَّم على أنها وجوه معتدلة قادرة على لعب دور الوسيط بين القوى العراقية والغرب.

دلالات التحرك البريطاني وأهدافه

لكن من غير الدقيق حصر التحرك البريطاني في إطار منافسة الولايات المتحدة. فهناك دوافع أخرى يمكن قراءتها:

1.حماية المصالح الاقتصادية: العراق يمتلك مخزوناً ضخماً من الطاقة، وفي ظل أزمة الطاقة العالمية، تسعى بريطانيا إلى ضمان موطئ قدم في قطاع النفط والغاز وإعادة إحياء استثماراتها.

2.دبلوماسية الجاليات: بريطانيا تحتضن جالية عراقية كبيرة ومؤثرة، والرهان على شخصيات من داخلها قد يخلق جسراً ثقافياً وسياسياً يعزز علاقاتها مع بغداد.

3.موازنة النفوذ الإيراني والتركي: بريطانيا لا تريد أن يبقى العراق رهينة الاستقطاب الإيراني – الأمريكي فقط، بل تحاول تقديم نفسها كطرف ثالث يمكنه لعب دور استقرار نسبي.

4.استعادة “المكانة الرمزية”: كقوة استعمارية سابقة، قد تسعى لندن إلى استثمار إرثها التاريخي لإعادة إنتاج دورها وإن بشكل مختلف، قائم على النفوذ الناعم لا السيطرة المباشرة.

ورغم أن الزج بشخصيات عراقية حاملة للجنسية البريطانية قد يبدو خطوة ذكية، إلا أن التحدي يكمن في مدى تقبّل الشارع العراقي لهذا الدور. فهناك حساسية عالية من أي وصاية خارجية، وتجارب سابقة جعلت مسألة ازدواج الجنسية مثار جدل سياسي واسع. كما أن القوى المنافسة (الأمريكية والإيرانية خصوصاً) لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي تمدد بريطاني جديد.

بريطانيا تتحرك في العراق بخطى محسوبة وهادئة، مستفيدة من شبكة العراقيين الحاملين لجنسيتها، لكن أهدافها لا تقتصر على منافسة الولايات المتحدة فقط. هي تسعى لبناء حضور متدرج عبر النفوذ الناعم والدبلوماسية غير المباشرة، بما يضمن لها حماية مصالحها الاقتصادية واستعادة دور سياسي، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن.

السؤال الأهم: هل سينجح هذا المسعى في بيئة سياسية عراقية شديدة التعقيد والتجاذب، أم أن “العودة البريطانية” ستبقى مجرد محاولة محدودة الأثر في ظل غلبة اللاعبين الأكبر حجماً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *