جيل Z من منظور الدولة الحضارية الحديثة: تأمل في الوعي الجديد للإنسان المعاصر

جيل Z من منظور الدولة الحضارية الحديثة: تأمل في الوعي الجديد للإنسان المعاصر
يرى النصّ أنّ جيل ‏Z‏ يمثّل تحوّلًا في الوعي الإنساني، يحمل أدوات الحرية والاتصال لكنه يحتاج إلى تهذيبٍ قيميّ يوجّه طاقته الرقمية نحو البناء الحضاري في إطار الدولة الحضارية الحديثة القائمة على قيم الحرية والعدالة والإتقان....

يولد جيلٌ جديد في كل مرحلة من مراحل التاريخ، لكن قلّما يولد جيلٌ يمثل انتقالًا في طبيعة الوعي نفسه.

جيل Z هو من هذا الطراز النادر؛ إنه ليس مجرد جيل بشري جديد، بل جيل ينتمي إلى عصر التحول الحضاري، حيث تتغيّر علاقة الإنسان بالمعرفة، وبالسلطة، وبالذات.

وُلد هذا الجيل في قلب الشبكة، لا خارجها.

إنه الجيل الذي لم يعرف العالم قبل الإنترنت، ولم يختبر العزلة قبل الاتصال.

كل ما يراه يسمعه في لحظة، وكل ما يشعر به يمكن أن يُبثّ للعالم في ثانية.

لقد تلاشت الجدران التي كانت تفصل بين الداخل والخارج، بين الفرد والجماعة، بين الوطن والكون.

لكنّ هذا الانفتاح الكوني لم يصاحبه دائمًا عمقٌ قيمي حضاري.

ففي الوقت الذي امتلك فيه جيل Z أدوات الحرية، لم يتعلّم بعد مسؤولية الحرية.

وفي الوقت الذي صار فيه الإبداع متاحًا لكل فرد، ضعُف الإتقان في كثير من ما يُنتَج.

وهنا يبرز دور الدولة الحضارية الحديثة بوصفها الإطار القيمي الذي يمنح هذا الجيل معنى وجوده ووجهة حركته.

الدولة الحضارية الحديثة لا تكتفي بأن تُدير المجتمع، بل تسعى إلى ارتقاء الإنسان من مجرد فاعل اقتصادي أو سياسي، إلى كائن حضاري متكامل.

ومن هذا المنظور، يصبح جيل Z مادةً خامًا لبناء المستقبل، لكنه يحتاج إلى التهذيب القيمي الذي يحوّل طاقته الرقمية إلى طاقة حضارية.

جيل Z يعشق الحرية، لكنه يفرّ من السلطة.

يبحث عن العدالة، لكنه لا يؤمن بالمؤسسات التي تمثلها.

ينادي بالمساواة، لكنه أحيانًا يُغرق نفسه في الفضاء الافتراضي الذي يعيد إنتاج اللامساواة بأشكال جديدة.

إنه جيل التناقضات الخلّاقة؛ جيلٌ يرفض القوالب لكنه لم يجد بعد الشكل الذي يحتضن روحه.

في قلب فلسفة الدولة الحضارية الحديثة تقف القيم الاثنتا عشرة كنجوم هادية: الحرية، العدالة، المساواة، المسؤولية، الإتقان، التضامن، التعاون، الإيثار، التسامح، الثقة، السلام، الإبداع.

هذه القيم ليست شعارات، بل منظومة تربية وتوجيه.

وإذا أردنا أن نفهم جيل Z فهمًا حضاريًا، فعلينا أن نرى كيف تتجلى هذه القيم في سلوكه ومواقفه.

إنه جيل الحرية، نعم، لكنه يحتاج إلى تربية المسؤولية.

وهو جيل العدالة، لكنه بحاجة إلى معيار حضاري للعدل لا ينفصل عن الإتقان.

وهو جيل الإبداع، لكنه يجب أن يتعلّم أن الإبداع بلا قيم قد يتحوّل إلى عبث جميل.

في الدولة الحضارية الحديثة، يُعاد بناء العقد بين الأجيال لا على أساس الطاعة، بل على أساس الشراكة الحضارية.

جيل Z ليس موضوعًا للتأديب، بل شريك في إعادة تعريف معنى الإنسان.

إنه الجيل الذي يمتلك اللغة الجديدة للعالم، لكن هذه اللغة تحتاج إلى روح.

والدولة الحضارية الحديثة هي التي تمنح هذه الروح عبر مشروعها القيمي الإنساني المتكامل.

ربما يكون جيل Z هو أول جيل بشري يعيش داخل “القرية الكونية” فعلاً، لكنه أيضًا الجيل الذي يشعر بالغربة داخلها.

ومن هنا، تأتي مهمتنا الحضارية: أن نحوّل هذه الغربة إلى سؤال وجودي منتج يقود إلى الوعي لا إلى الضياع، إلى المعنى لا إلى التشتت.

إنّ الحرية بلا مسؤولية انزلاق في فراغ المعنى،

والاتصال بلا قيم هو شكل جديد من العزلة.

جيل Z، في عمقه الأصيل، هو بذرة الدولة الحضارية الحديثة إذا ما وُجّه نحو الوعي القيمي والارتقاء الإنساني.

إنه الجيل الذي يحمل أدوات التغيير، وينتظر من يمدّه برؤية تجعل التغيير ارتقاءً لا فوضى.

ولعلّ المهمة الكبرى أمام المفكرين والمربين وصنّاع القرار اليوم، هي أن يفتحوا لهذا الجيل أبواب الفهم الحضاري،

لكي يصبح الإنسان الرقمي إنسانًا حضاريًا،

والحرية الإلكترونية حرية مسؤولة،

والإبداع العابر للحدود إبداعًا في خدمة الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *