في ذكرى غياب الأسطورة التي لا تغيب

في ذكرى غياب الأسطورة التي لا تغيب
رغم استهدافه وغيابه، يبقى حسن نصرالله قائداً استثنائياً بكاريزما وذكاء استراتيجي؛ مشروع المقاومة لم ينتهِ بمماته، بل إرثه يعزّز قدرة الجيل الجديد على الاستمرار والانتصار، ويجعل أثره حاضراً في مسارات النضال الإقليمي....

نجم أضاء سماءنا ثلاثة عقود بالتمام والكمال،حتى تعودنا على أنواره الساطعة، ثم توهج، خطف الأبصار واندغم نوره بنور الشمس إلى الأبد. لكن بعض الناس أصر على النظر إلى الراحل نصر الله ومنظمته الشجاعة من زاوية الأيديولوجيا الضيقة. بهذا المعنى قام أحفاد ابن تيمية باستبعادهما ببساطة فجة من دائرة المشروعية الثورية على أساس أنهما جزء من منظومة دينية تؤمن بولاية الفقيه…الخ الخ لكن هذا فيما نرى تبسيط مخل ومجحف، إن لم يكن سخيفاً ومأجوراً.

هذا المناضل الفذ لا ينجبه التاريخ كل يوم.

وأزعم أنه لا يوجد قائد عربي في العصر الحديث يضاهي هذا الرجل في شجاعته وموهبته وذكائه وقدرته على القيادة. وهذا كله يمتزج بسحر “كاريزما” قل أن تجد له مثيلاً.

قلة من القادة يفهمون السياسة على نحو عميق.

بالتأكيد ليس منهم جورج بوش، ولا الراحل القذافي، ولا الراحل عرفات، ولا الراحل صدام حسين الذي غررت به سفيرة أمريكا أيبرل غلاسبي بسهولة…الخ.

من بين القادة  القلة الأذكياء الذين يلفتون النظر، الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما، ورئيس فرنسا الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران، والرئيس الروسي بوتين والصيني شي بينغ.

استثناء السيد حسن نصر الله والذكاء الاستراتيجي

ومن أذكى القادة على مستوى العالم، الراحل حافظ الأسد الذي كان هنري كيسنجر يكرهه بسبب صبره الذي لا ينفد، وقدرته على ضبط أعصابه وإخفاء مشاعره. كان حافظ الأسد يجلس سبع ساعات متتالية واضعاً ساقه الأيمن فوق الأيسر دون أن يتعب أو يمل. وكان يحافظ على مواقفه السياسية وحججه متماسكة وثابتة على امتداد ذلك الوقت الطويل. بالطبع كان ذلك مزعجاً لكيسنجر المعتاد على أن يغير قرار الحاكم العربي خلال دقيقتين.

على الرغم من ذلك لا أظن أنني كنت في أي وقت أستمع للأسد أو لأي من أولئك القادة بغرض أن أتعلم منه: أنا متخصص، أنفقت السنين الطويلة في تعلم الفلسفة والسياسة المقارنة والاستدلال والتحليل والاستنتاج. وليس بمقدور الحاكم أن يجاري الأكاديمي في معرفته النظرية بالسياسة والتاريخ.

فقط نصر الله الذكي والمبدع يظل استنثاء مدهشاً للقاعدة: بصراحة، كثيراً ما استمعت لهذا القائد بغرض أن أفهم أجزاء من لوحة الواقع التي يعسر علي فهمها. بالتأكيد هذا القائد شكل فارقاً بحضوره الفذ، ولا بد أن غيابه كان جلياً نشتم رائحته في تفاصيل حياة لبنان وفلسطين والمنطقة كلها. (ترى هل كان التركي سيجرؤ على غزو سوريا لو لم يغب أبوهادي؟!).

عندما غاب جمال عبد الناصر انفرط عقد البناء الذي أرساه فوراً. ووضع السادات خلال أشهر قليلة البيض كله في سلة أمريكا، وفكك مصانع القطاع العام ثم قام بالانفتاح ثم صالح إسرائيل….الخ.

لكن السادات خليفة عبد الناصر، اليس كذلك؟!  (كان أحد شعارات تشييع عبد الناصر مثير للسخرية والألم على السواء: عبد الناصر لما مات، خلف أنور السادات).

ترى هل نجح المناضل الشجاع والقائد الفذ نصر الله في تربية جيل من القادة الشبان الذين يستطيعون أن يحملوا لواء الحزب من بعده؟

لطالما غنت إسرائيل أغنية فحواها أن أية حرب يمكن أن تكسبها بسرعة بمجرد أن “تتخلص” من نصر الله. وقد كرر نتانياهو مرات ومرات أن محور المقاومة هو ببساطة “حسن نصر الله”. وقد ذكر الرجل كالمسعور على مدار العام اغتيال السيد بوصفه أحد إنجازاته الكبرى، بل ذهب حد القول إن المحور انتهى باستشهاد السيد، لكن هل صحيح أن البناء الذي شيده أبوهادي انتهى بغيابه؟!

لكي لا أترك السؤال معلقاً في فضاء المجهول أقول الآن باختصار: ليس هناك أي دليل أن مشروع المقاومة اللبنانية قد انتهى؛ تعرض لضربة مؤلمة، نعم، لكنه ما يزال ينبض، وربما يستلهم من ذكرى الشهيد ومبادئه ما يدفعه إلى النهوض أقوى مما كان. لقد رحل هوشي منه عام 1969 وثورة فيتنام في أمس الحاجة إليه، ولكن رفاقه واصلوا المسيرة حتى النصر والتحرير في العام 1974. وقد غاب “قنديلنا الوهاج” متحصلاً الشهادة التي تمناها، لكن هذا الغياب تحول إلى حضور أشد كثافة، يستلهمه الصغير قبل الكبير فيحث الخطى على دربه المرسوم بعناية نحو انعتاق لبنان وفلسطين والأمة العربية كلها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *