Search
Close this search box.

رسائل شاكر حسن آل سعيد – هناء مال الله تأهيل المتلصص … الشخص الثالث

رسائل شاكر حسن آل سعيد – هناء مال الله تأهيل المتلصص ... الشخص الثالث
حينما نشرت هذا الموضوع قبل عامين، دونما نماذج، اقترح القاص محمد خضير أن أرفق بعض النماذج من تلك الرسائل، وهو أمر لم أتمكن منه سوى مؤخرا...

1

مقتــــــرح

حينما نشرت هذا الموضوع قبل عامين، دونما نماذج، اقترح القاص محمد خضير أن أرفق بعض النماذج من تلك الرسائل، وهو أمر لم أتمكن منه سوى مؤخرا، حينما وجدت العدد (174 الصادر في 15 حزيران 2004) من صحيفة النهضة التي كانت تصدر في بغداد، التي نشرت نموذجـ(ـين) منها، إلا أن إعادة قراءتي للمنشورة في تلك الصحيفة جعلني أعيد النظر ببعض جوانب الموضوع، فأعيد كتابته، وأضيف إليه ملحقا لرسائل تبادلها مع آل سعيد ونشرها الدكتور حاتم الصكر في موقعه الالكتروني؛ حيث وجدتها وثيقة الصلة بالموضوع، وأؤكد أنني اقتبست من الصحيفة، والموقع الالكتروني كامل النماذج المنشورة دونما أية تغييرات:

2

نمـــوذج أول:  آ

(رسالة من شاكر حسن آل سعيد إلى هناء مال الله)

“رسائل… من قلب الحياة إلى عمق الموت،

رسالة، شاكر حسن آل سعيد

عزيزتي هناء، أشواقي إليك لا حدود لها. انتظر عودتي إلى بغداد إن …، وفيما يلي بعض رسائلي الصامتة إليك: *لازالت معالم تلك الحديقة الغناء بأشجارها ذات الألوان الخضراء المتنوعة الدرجات… والتربة المضيئة.. والطيور المتوارية، تشدني إليها.. فهناك ما يتجاوز فيها (الجسد إلى الثقافة إلى الروح..) وهي ككل الحدائق الأخرى بالطبع تنطوي علي سحر دفين، ولكنها أيضا احد طلاسم فريد الدين العطار أو المثنوي.. ترى ما الذي ارقني كل هذا الليل الطويل لكي أصحو بغتة وأنا أترنم بمعالم سجادة شرقية طالما (تسكعت) في أصولها الطبيعية… (بل في شريحة من شرائح نسيجها)، إذا إنا لم أكن ممتلكا حقا (تعويذاتي)فيها: صلاتي؟

وما الذي دفعني إلى أن اكتشف أحيانا فيها بعض (نقاط) وهجي الفكري، لو لم امتلك قبل هذا معنى نقطة (وهج) منظومتها في وهج منظومتي التي ضمنتها كتابي (الحرية في الفن) قبل أكثر من ثلاثين عاما!!!!

وما الذي يدعوني على عدد اللحظات إلى التغني بجمال الكون إنا الذي لا امتلك حتى جناح ذبابة لكي احمي نفسي من غدر جناحها الآخر..؟

وما الذي يكشف عني حجب الجهل لذلك الوجه الثاني للعلم..؟ وما الذي كان يتوارى مع طيور حديقتي أنا إذا انتزع الصمت من لحظ الكائنات أو إطراقة ذروة (شجرة سرو) في تلك الحديقة أو ميلان (زهرة) لبلاب لم تكن لتشاهد فيها!! وكان لي حينئذ أن أعيش مع كل (بستان معرفة تلك الحديقة): همسها وعتابها وتألق عينيها وخطابها وكثبان تربتها قبل أن تنبثق من (مشيمتها) الصخرية.. أعيش كل ذلك الثراء المستقبلي الذي لن أقرا فيه سوى (وجه) ثقافتي وروحي اللذين يكاد احتجابهما ما وراء جسدي يحيلني إلى هباء!!

*أيتها الحديقة الغناء عودي إلي.. أعيدي إلي صحوي وثقتي بي وهذياني وضحكي وبكائي.. عودي إلى ثماركم وزهورك وأوراقك وأغصانك وجذورك بكل ما يعرفني بمعنى صمتي وضياعي وهذري .. بكل تلك العيون المتسائلة عن أجوبة لا حدود لمدلولاتها وتلك الأجفان الواعدة بالتساؤل من جديد.

عودي إلي عودي ولو من خلال نظرة سريعة إلى نور القمر. يتوهج أولا في هلاله أو بدره ثم يتسرب في ثنايا السطوح الغارقة بغفلتها عنه.

ايها القمر: تحدث أنت نيابة عني: تحدث. وقل أن في داري عدة (دوال) لتوهجك المشرق: شجرة التين وزهور اليلدز وحزمة من ضوء تنعكس كأشعة الشمس النائية..

أيها القمر الذي كان يوما في طفولتي يحسدني على يقظتي وفزعي، ساعدني على أن تكون رسولي إلى من أحب (وكان القمر يصمت حينئذ عن الجواب مطرقا) وصمته حزين ومليء بالحنان.

أتسلى بقراءة (بورخس ورامان سلدان وروبرت شولتز وفرويد وأخيرا سيرة حياة السري السقطي ومواعظ الكيلاني في كتابه فتوح الغيب). كل شيء… والقراءة حوار وحوار القراءة حديث بين ناطق وصامت… فهو حديث الروح لا اللسان/ الإذن ولا العين/ الكتاب… انه حديث فحسب: صلاة صامتة… عتاب. لقد تعلمت أن أتحدث مع الطيور ولم أكن اعلم في الكتب من ينطق كطائر وآخر كانسان أو كلب أو ما إلى ذلك. ولكننا أمام (طلسم) عالم الصمت نقف على ارض جرداء (وقفة) دعاء لا طواف.. وان أسرار عالم الصمت لا حدود لها من الضوضاء (وفي الضوضاء بالطبع يكمن النغم).

هذه اللغة لا يتحدث بها الأسوياء… (وتعليق فريد الدين العطار على (حزام النمل الدقيق في إحدى قصائده) في منطق الطير يشير إلى النقطة الفاصلة بين الروح والجسد.

ولكن الجسد الذي يتضمن الروح ليس كالروح التي تتضمن الجسد وعالم الصمت يتضمن بدوره عالم اللغط…

أين أنت الآن مني وأنا أقف وحدي!! وإذا تحدثت، تحدثت مع نفسي حتى ليخيل للآخرين أني مجنون يهذي!

ترى هل يدرك ما أقوله سواك.

سلامي للجميع

شاكر

نمـــوذج أول:  ب

(رسالة من هناء مال الله إلى ( ؟؟ شاكر حسن آل سعيد)

جواب هناء مال الله عن الرسالة

سجادة الصلاة

لقد قمت بنزول طويل إلى العدم لاستطيع الكلام بيقين (مالارميه)

أستاذي شاكر حسن آل سعيد

لماذا لم استطع الرد على رسائلك وأنت حاضر جسديا!

ولماذا يحفزني غيابك على الرد؟

وهذه الردود إلى من ابعثها!؟

–     إن الطيور المتوارية البريئة بالنسبة للحديقة كالحيوانات المفترسة، وها أنا أشبه الطيور بالكواسر (ص…) لأكمل جحودي لك ولأكمل دائرة ضياعي.

–     تشابه بين نسيج الحديقة العضوي، وصياغة زخارف السجادة فتعيش الحديقة بأبعادها المناسبة لجسدك، ومن ثم تسلك دربا صعبا سلوكه بالجسد فتكمل توغلك بصلاتك على سطح سجادة مزخرفة، هذه هي اشكاليتك التي غدت رسمك وتنظيرك، وهي خلطك العضوي بالصباغي، (عيشك لما هو عضوي بطريقة فكرية (صياغية) وبالعكس).

يعني أن التوغل الجسدي داخل شبكة الحديقة بزهورها وطيورها وثمارها مهد لتوغلك الروحي على سجادة صلاة شرقية مزخرفة… فكان مسارك إلى الروح بمسار الجسد في هذه النقطة ينعطف طريق المتصوفة (الايجابي) عن طريق الزهاد (السلبي). وما أردت أن تنفيه أثبته بنفيك له أي اثبت حيويتك الجسدية بمحاولة التماهي مع قيمة الفناء.

–     الدرس الثاني لي من الرسالة هو: أن لكل المعرفة الإنسانية وقاحة الجهل، ومحاولتك  في إزاحة حجب الجهل عنك وقفت مكافئة لها محاولات الرسامين العراقيين بصقل حجبهم ورتقها وتكثيفها.

–     كانت تجربتك في العبادة تستمد من خزين متراكم في المستقبل أي كانت علة تفكيرك هو هدفك المستقبلي.

–     من يتسلى بمن؟ (بورخس، ورامان سلدن، وروبرت شولز، وفرويد، وأخيرا سيرة حياة السرى.. السقطي ومواعظ الكيلاني..)هم تسلوا بك عندما عبثوا بمنظومة وجودك الحسية.

ها انا عبر تمردي عليك أكمل قيمة تلمذتي المثالية لك.

سلام على روحك الجليلة

هناء مال الله

بغداد – 1/4/2004 ”

3

حينما تتجه الرسائل من مرسِِل إلى مرسَل إليه يفترض أن يكون ذلك الأخير متلقيا وحيدا لها، وهو ما يجيز لنا أن نسميه (القارئ الأصلي) الذي يماثل قرينه (المعنى الأصلي) للمؤلف الذي لا نؤيد وجوده في النصوص، ولكننا نؤيده في الرسائل الشخصية، والسبب في موقفنا هذا أننا نعتبره معيارا تاريخيا – تأويليا تختص به الرسائل دون غيرها من النصوص المكتوبة الأخرى، كون الرسائل الشخصية موجهة تحديدا لذلك (القارئ الأصلي)  الذي افترضه ذلك النص قارئا وحيدا، يعرف تفاصيل الخطاب وجوانبه السرية التي كان المرسل، والمرسل إليه قد تواطئا عليها  “هل يدرك ما أقوله، سواك”، فيحاول المرسِل جهده تكييف خطابه ليكون موجها، وملائما لذلك المرسَل إليه المحدد من خلال هيمنة معرفة تاريخية سابقة بين المرسِل والقارئ الأصلي (= المرسَل إليه) ، فتكون ذاتية المرسِل والمرسَل إليه فاعلةً طيلة مجرى الخطاب، وبذلك نقرّ أن قدرا من ذاتية الكاتب والمتلقي تعشش في طيات سطور الرسائل الشخصية،فهي أذن نصوص ليست بريئة من الشخصنة، وبذلك يمكن الحديث أحيانا ومن خلال تاريخية نصوص الرسائل، عن القصد الأصلي للكاتب بقدر ما، فلا يمكن أن يكون هنالك متلق آخر للرسائل سوى المرسَل إليه المحدد لحظة الكتابة، بل وقد يكون وجود أي غائب ثالث وجودا غير شرعي، وجودا متلصصا حتى وان دخل على استئذان، فلا رغبة في منح هذه النصوص للآخرين كما هي الحال بالنسبة لنصوص الأدب.

تلك برأينا قواعد راسخة في العقل العربيّ على الأقل، فنادرا ما نرى جرأة في نشر الرسائل، وعلى الأخص تلك التي يكون طرفاها رجلا وامرأة، ولهذا لم ينتشر هذا النمط من الرسائل، ككل المراسلات التي غالبا ما ينظر إليها باعتبارها إسرارا شخصية (=كمون فعل الشخصنة)، ولم تكن هنالك إلا استثناءات قليلة: فدوى طوقان – المعدّاوي، مي زيادة – جبران خليل جبران في تاريخ نشر الرسائل في الادب العربي.

ورغم الاختلاف بين نمط رسائل فدوى – المعداوي، مي – جبران، ورسائل هناء – شاكر، حيث تتخلل الأولى انبثاقات عاطفية صريحة، بينما لا تعدو رسائل هناء – شاكر سوى رسائل ذات طابع فكري فلسفي بالدرجة الأساس، ولكن مع ذلك، وكقاعدة عامة في غالبية الأحوال، يبقى وجود المتلقي – الآخر (= الشخص الثالث = غير المرسِل ولا المرسَل إليه) طارئا، وتخفى عنه المزيد من التفاصيل  الخروم، فتضحى منتجة الرسائل (من مونتاج) أمرا لابد منه لتكون تلك الرسائل جاهزة لاستقبال هذا الدخيل، أو ربما لتأهيله ليكون مقبولا كمتلق لنص لم يضعه في اعتباره مطلقا، كما لم تضعه الإطراف المُنتجة للخطاب في حساباتها.

نموذجانا المرفقين يمتثل الأول منهما لشروط المتلقي المحدد قبليا، ونعني بها رسالة شاكر حسن آل سعيد إلى هناء، بينما لا يمتثل النموذج المقابل لهذا الشرط، ونعني بها الرسالة الموجهة من هناء افتراضا إلى شاكر حسن آل سعيد، فلم تكن موجهة إليه في حقيقة الأمر، فحينما أرسلت هناء مال الله رسالتها الجوابية، وقبل ذاك، حينما كتبتها، كلا أو جزءا، كان آل سعيد قد رحل عن عالمنا هذا، وبذلك تكون هناء مال الله قد (خدعتنا) أو (احتالت) علينا (وأنا استخدم ذات التعبير الذي استخدمه بورخس، وأعتذر كما اعتذر قبلي، عن استخدام كلمة احتال رغم إني مؤمن بما أكده بورخس من أن “كل أدب، للأسف، مصنوع من حيل ، وهذه الحيل أو الخدع … بالغة الفطنة إلى حد الخجل من تسميتها حيلة ولكن لا وجود لكلمة أفضل”)، حينما جعلتنا نعتقد إن الرسالة موجهة إلى آل سعيد، بينما هي في حقيقة الأمر، أو في أحسن الأحوال، موجهة له عبرنا نحن القراء الذين حاولت مال الله أن تلقي إلينا برسالة كتبت لآل سعيد ووجهت إلينا، أو قل إنها موجهة عبرنا إلى آل سعيد رغم علمها علم اليقين انه لن يقراها بعد الآن، ونحن الذين سنقرؤها وحدنا في النهاية،  إلا أن إصرارها على إكمال اللعبة قد جعلها تحرص على إكمال شروطها القارة في الوجدان الجمعي، فكانت تؤكد “أستاذي شاكر حسن آل سعيد، لماذا لم استطع الرد على رسائلك وأنت حاضر جسديا!، ولماذا يحفزني غيابك على الرد؟، وهذه الردود إلى من ابعثها!؟” رغم إنها تعلم بأنها إنما توجه رسالتها لنا، نحن معشر القراء، وان آل سعيد لن يتسم ردود رسائلها بعد الآن.

إن استقرار الرأي على نشر تلك الرسائل، وتأهيلها أيضا، لجعل وجود الشخص الثالث مقبولا سيتم من خلال (إخفاء) ما تستدعي الضرورة إخفاءه، فيتم التعامل مع تلك الرسائل بمشرط يكرّس سرّيّة متلذذة (إخفاء المعرفة) بغوايتها التي تماثل غواية إخفاء المجوهرات داخل العلب وسرّيّة ذلك باعتبارها وسائل لتركيز الثروة (=المعرفة؟)، مما جعل الرسالة الأولى لآل سعيد تتخللها بعض الخروم التي اخفت مضمونها هناء مال الله “انتظر عودتي إلى بغداد إن …، وفيما يلي بعض رسائلي الصامتة إليك”، بينما خلت الرسالة الجوابية التي وجهتها إلى آل سعيد من أية خروم لأنها ببساطة كانت قد (صممت) لتوجه إليه عبرنا، أو إلينا بافتراضه مرسلا إليه.

تكون هناء مال الله إذن، (بوابة) كبرى للتلقي، فمن خلالها فقط تترشح، وتتقرر الحقائق: تلك (الضرورية) للقارئ، وتلك التي هي (غير ضرورية)، وهي غواية تماثل بعث الموتى من (المغارة السحرية) حينما يعودون إلى الحياة عندما نفتح صفحاتهم (= رسائلهم) كما يصف رالف اميلسن عملية القراءة، وبذلك تكون هناء مال الله (القارئ المهيمن) الذي يلقي بما يشاء للقارئ الطارئ، النهائي للرسالة حينما تكف أن تكون رسالة لصالح تحوّلها إلى نص ينشر في الصحف، أو ربما في كتاب، فمن خلال هيمنة وسطوة هناء مال الله، تحولت تلك الرسائل إلى نصّ، وهو تحوّل نعتقد إن أهم شروطه الضرورية محو اثر (القارئ الأصلي) والمعاني الخبيئة التي يمكن أن نسميها (معنى المؤلف)، وهو المعنى المتعلق بالإشارات السرّيّة المتعلقة ، هي الأخرى، ببواطن العلاقة الخاصة بين المرسِِل (أي مرسِل) والمرسَل إليه، ولم يعد يهمنا، نحن القراء النهائيين سوى أن تكون تلك السطور نصوصا تتعلق باهتماماتنا المختلفة الكامنة فينا، فيبحث كلٌّ عن حاجته فيها: المؤرخ يبحث عن معلومات يرتـّق بها خروم تاريخه الذي يحاول تدوينه، والناقد يبحث عن التقاطات قد تفيده .. وهكذا. لقد ألقت لنا هناء في رسالتها الجوابية بلغز الرسالة حينما استهلتها بالسؤال الموجه إلينا في حقيقته “أستاذي شاكر حسن آل سعيد / لماذا لم استطع الرد على رسائلك وأنت حاضر جسديا! / ولماذا يحفزني غيابك على الرد؟” وتنهي رسالتها بإلقاء الجواب (الحكمة النهائية) للرسالة وسبب نشرها “ها أنا عبر تمردي عليك أكمل قيمة تلمذتي المثالية لك” وهو أمر أهم برأينا من (الدروس) التي قالت أنها اكتسبتها من رسالة آل سعيد فحاولت شرحها “الدرس الثاني لي من الرسالة هو: أن لكل المعرفة الإنسانية وقاحة الجهل، ومحاولتك  في إزاحة حجب الجهل عنك وقفت مكافئة لها محاولات الرسامين العراقيين بصقل حجبهم ورتقها وتكثيفها” وهو يبدو صدى أو جوابا لسؤال آل سعيد ذاته “وما الذي يكشف عني حجب الجهل لذلك الوجه الثاني للعلم..؟”.

نحن نعتقد، أن شاكر حسن آل سعيد، وهو يكتب تلك (الرسائل)  لم يكن قد وضع أيا من هؤلاء (الآخرين) في دائرة اهتمامه حينما كان يضع قلمه على الورق، بل كان همه الأول أن تصل فكرته إلى (المرسَل إليه)، أي هناء مال الله تحديدا؛ وبذلك فهو يصوغ عباراته حسبما يعتقد أن هناء سوف تتلقاها بالشكل الذي أراده، بينما نبحث نحن المتطفلين، في طيات تلك الرسائل عن تأويلات، وتقويلات ربما لم تكن قد خطرت في ذهن مرسلها مطلقا، وذلك حقنا المشروع تماما كمتلقين.

هل سترفع الناقدة الرسامة هناء مال الله الحُجُب عن رسائلها مع شاكر حسن آل سعيد بعد أن نشرت جزءا يسيرا منها في الصحافة، وهل هي بداية للسماح لنا، نحن المتلصصين الأبديين، معشر القراء (=المؤولة) المهووسين بإشباع نهمنا في الإطلاع على ما نعتبره مصدرا مهما آخر في دراسة الجهد الفكري لشاكر حسن آل سعيد وتاريخ الفن التشكيلي العراقي.

إن نقل الرسائل من كونها لعبة يتبادل إرسال واستلام كرتها اثنان، بمعزل عن الآخرين ومدى نظرهم، إلى حوار (مفضوح) يتابعه القراء على صفحات مطبوعة، يغري بالحصول على (النصف) الآخر من الورقة (=الحوار)، رسائل هناء مال الله إلى شاكر حسن آل سعيد، وما الذي حلّ بها من بعده؟ ومن الذي سيفلترها لتكون جاهزة للنشر؟ هل هي هناء مال الله نيابة عن الراحل آل سعيد جريانا على بالمثل؟، أم أننا سنقبل ادعاءها حينما تنفي وجود رسائل لها موجهة إلى آل سعيد؟ “أستاذي شاكر حسن آل سعيد / لماذا لم استطع الرد على رسائلك وأنت حاضر جسديا! / ولماذا يحفزني غيابك على الرد؟”. كل تلك الأسئلة موجهة إلى هناء مال الله، وهي -أي الأسئلة- تنتظر.

4

نموذج ثان –  أ –

الرسالة ذات الرقم (2 )

(رسالة من شاكر حسن آل سعيد إلى هناء مال الله)

عزيزتي  …, ابنتي الروحية

هناء ما الله المحترمة

تحية , وبعد  .

بمقدار ما اجد في تأملاتك التنظيرية على كتاباتي حقيقة بنوتك الروحية اجدها في نفس الوقت حقيقة امومتك . كأني احلم بما قبل الحلم , بهاجس في ان ارى ضوء نجمة تبعد عني مئات السنين الضوئية :-  اراها في حاضري . فكان حاضري هو مستقبلك الروحي ايضا .

ان هديتي المتواضعة اليك هي ايضا امتناني بما تكتبيه عن اعمالي الفنية وما تكملين به بشكل من الاشكال  – طروحي الفنية . ولكنها كذلك ( تجل ) من تجليات حضوري المستقبلي : اي ان استطيع ان ادرك معنى المنفصل في المتصل والممكن في الوجوب والمكان في الزمان والزمان في المكان .. فتلك من دواعي وبلا ريب , ايغالي في ايصال منهجية ( البعد الواحد ) الى بعض شواهدها الروحية الماورائية .

اني احاول ان امهد في رسالتي هذه لبعض امكانيات رؤيتي الفنية في اللوحة الجديدة وان كنت – كرسامة – اقدر على اكتشاف طروحي التقنية والادائية فأنت ومن خلال منظورك الشخصي في العمل الفني , وهذا ما يحفظ لك بالطبع وضوح رؤيتك الفنية , تستطيعين ان ترين مالااراه .

ان اهتمامي ( باللوحة المزدوجة والفراغية ) يجئ في اعقاب اهتمامي باللوحة الاحادية الجانب .. لكنني في هذه اللوحة سيكون الفراغ هو قلب اللا – فراغ وليس العكس ( اي ان تبدو اللوحة وهي بمثابة سطح تصويري تسبح في الفراغ المحيط بها ) او ان مشاكل العلاقة بين ( الاطار وعالمها الداخلي / اللوحة وعالمها الخارجي )

تبدو الان ( كأشكالية ) . ان دواعي ( التخريق بالدبوس ) كما ستجدينها هي ايضا بحث سيميولوجي  في احالة ( الاشارة التدوينية ) الى ( اشارة تعويذية ) . فانا لااكتم اني في اعمالي الاخيرة الجأ إلى نوع من التعاويذ الطفولية التي طالما كانت امي  – كباقي الامهات ازاء ابنائهن – يذكر اسماء الحساد في كل وخزة دبوس على ورق ازرق , لكي تحميني من شرورهم .

اللوحة الاحادية الجانب هي سطح معتم كسطح القمر يعكس الضوء او كل ما ينظر اليه فيرى في ذلك صورته هو  – بشكل او بأخر اي ان اللوحة وهي خارج البحث في البعد الواحد تظل في مواجهة المشاهد ليقرأ من خلال ذلك ( قراءته ) هو دون ان يتفذ الى ماوراء مايقرأ .

اما اللوحة المزدوجة والمخرقة فهي التي يستطيع المشاهد ان ينفذ من خلالها الى ماوراء اللوحة وبالتالي (اثناء محاولته ان يقرأها كسطح مشع) سيكتشف ذاته في (روحه) هو , سيستطيع ان يقرأ مع انطوان سان اكسوبري مثلا موقف هذا الرائد من رواده : (( فليس هناك الا الروح , لو هبت على الصلصال لا ستطاعت ان تخلق الانسان )) .

(في روايات اكسوبري يظل البطل مقتنعا بأنه يحمل رسائل العالم اجمع الى مدن نائية فيحافظ عليها من ان لاتصل اليهم الا الى اصحابها ) وتلك هي بالطبع صورة من صور النجوم التي نراها مضيئة في حين انها كانت مطفأة, اي ان ضوءها يصلنا الان مع انها في نفس الوقت تكون قد ماتت منذ ازلها الحاضر.

لوحتي التي اكتب عنها الان هي كما سترين محاولة في تنظيم العلاقة بين الفارغ والممتلئ او المنفصل والمتصل ولكن بصورة تمثل نوعا من التجليات المحورية. اي ان السطح التصويري ذا البعدين سيبدأ من انعدام الابعاد (وهو الزجاجة التصحيفية للعمل الفني) بحكم (بنيته).

اللوحة ولكنها اي لوحة ستحتوي على فراغها ( او انعدام ابعادها ) في داخلها . ثم في هذا الداخل ستبدو اللوحة من جديد وفي داخلها ايضا تلك الفراغات التعويذية. فهناك اذن تعاقب بين المنفصل والمتصل في المعرفة التقنية ولكن مثل هذا المنهج الديناميكي لاشكالية البعد الواحد يظل – من باب الامانة العلمية–  في اعقاب بلاغة محمد بن عبد الجبار النفري كقوله مثلا في كتاب المواقف وكتاب المخاطبات: (..ولو كشفت لك عن وصف النعيم لاذهبتك بالكشف عن الوصف وبالوصف عن النعيم) وكذلك الامر بالنسبة لجواد سليم فهو في عمله الفني المتجلي في لوحته (اطفال يلعبون) يمثل لنا – ولكن بواسطة الشكل وليس الخط النقطوي (او انعدام الابعاد عبر النقطة)  – نفس هذه المنهجية ( ذراعا الطفلة بحركتهما يرسمان عينا والعين بدورها تحتوي عينا اخرى الخ …).

ربما كنت ستعلمين ايضا ان مثل هذا العمل هو ايضا من تجليات الفكر الرافديني (المتمنهج) من النحت البارز السومري (= لوحة اونانشه ذو القلب الاجوف) الى كأس اينانا السومري (= الفوهة في اعلى الكأس و (بدنه) الكأس مستويات خليقية) ثم الى بعض لوحاتي الاخيرة ومنها اللوحة: فالقلب الاجوف وفوهة الكأس هما ايضا كامنان في لوحتي التي اسميها بـ(ـتعويذة).

ختاما

ارجو ان تتقبلي مني هديتي المتواضعة

كناية عن احترامي وتقديري ……….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *