Search
Close this search box.

سيناريوهات التدارك الذهنية في قصة “الصوت” للكاتب أحمد خلف

سيناريوهات التدارك الذهنية في قصة "الصوت" للكاتب أحمد خلف
تمثل سيناريوهات التدارك الذهنية إحدى الآليات المنهجية البارزة في حقل اللسانيات الإدراكية والشعرية الإدراكية، فهي تقدم إطارًا تحليليًا متقدمًا لفهم...

مقدمة

تمثل سيناريوهات التدارك الذهنية إحدى الآليات المنهجية البارزة في حقل اللسانيات الإدراكية والشعرية الإدراكية، فهي تقدم إطارًا تحليليًا متقدمًا لفهم البنى السردية وكيفية معالجة المتلقي للمعلومات المتتابعة في النص. تقوم هذه النظرية على رصد العمليات الذهنية التي يقوم بها القارئ أثناء بناء النماذج الذهنية للسرد وإعادة بناءها استجابةً للمعلومات الجديدة أو المتناقضة، ما يستدعي العودة إلى نقاط سابقة في النص ومراجعة التفسيرات الأولية.

تتجلى قيمة هذه المقاربة التحليلية بشكل خاص في دراسة النصوص السردية التي تتسم بالتعقيد الادراكي والتلاعب بأفق توقعات القارئ، كما في قصة “الصوت” للقاص أحمد خلف، التي تمثل نموذجًا للتداخل بين مستويات الواقع والتخيل. تسعى هذه الورقة إلى بحث سيناريوهات التدارك في تحليل الآليات السردية التي يوظفها خلف لخلق فضاء نصي متعدد الطبقات الإدراكية تتشابك فيه المسارات الذهنية للشخصية الرئيسية مع المسارات التأويلية للقارئ.

تأسيس التوقعات الأولية وتقويضها

تشكل افتتاحية قصة أحمد خلف نموذجاً لآلية تأسيس وتقويض متزامن حيث تعمل كبنية ادراكية مزدوجة الوظيفة. ففي المستوى الأول، يؤسس النص إطاراً ذهنياً رومانسياً، يوجه القارئ نحو توقعات محددة ترتبط بسيناريو اللقاء المحتمل بين الشخصية الرئيسية وحبيبها. وعند التحليل الدقيق لعبارة “اقنعتها الورقة وابتهجت لفطنتها وتدبير أمرها، وما أجمل المصادفة لو التقيته هناك في السوق”، نلاحظ أن الكاتب يستخدم الصيغة الافتراضية “لو التقيته” التي تحمل دلالات الاحتمالية والتمني، لا اليقين. هذه الصياغة اللغوية تزرع بذور الشك في مصداقية التوقع، ما يخلق توترا اسقاطيا بين ما هو واقعي وما هو متخيل. يتعزز هذا التوتر بالانتقال المباشر من الخيال (“سأقول له ما أحلاك من عاشق قلبك بسعة السوق هذا وحجمه”) إلى الواقع الفعلي المتمثل في السلوك الحركي للشخصية. فالوصف “امسكت حافظة نقودها بيدها وقبضت عليها بقوة ثم ما لبثت أن اندفعت باتجاه مرماها، تحث الخطى لا تلوي على شيء” يحمل مؤشرات سلوكية تتجاوز في حدتها طبيعة المهمة البسيطة (التسوق) التي تقوم بها الشخصية. إن الفجوة بين النشاط العادي (التسوق) والسلوك المضطرب (“قبضت عليها بقوة”، “اندفعت”، “تحث الخطى”) تدفع القارئ إلى إعادة الإطار الادراكي، فالقارئ يتلقى في البداية الإشارات السلوكية باعتبارها جزءاً من سيناريو التسوق الروتيني، لكنه يضطر لاحقاً – مع تطور الأحداث – للعودة للوراء وإعادة تأويل هذه الإشارات المبكرة باعتبارها علامات على حالة نفسية مضطربة.

يمثل هذا التلاعب بالإطار الادراكي للقارئ تراكبا ادراكيا من مستويات متعددة من المعنى في المقطع الواحد. فالسلوك الظاهري للشخصية (التسوق) يختلف عن دوافعها الداخلية (اللقاء المحتمل مع الحبيب)، والتي قد تختلف بدورها عن الواقع الفعلي (غياب الحبيب) كما يتضح لاحقاً في القصة. يضع هذا التراكب الإدراكي القارئ في موقف يتطلب منه تفعيل “سيناريو تدارك استباقي”، حيث يُجبر على العودة باستمرار لإعادة تقييم وتفسير المعلومات السابقة في ضوء المعلومات الجديدة. وهكذا تعمل الافتتاحية كمفتاح تأويلي للقصة بأكملها، إذ تؤسس لنمط القراءة التداركية التي ستشكل تجربة القارئ في تتبع التحولات الإدراكية للشخصية الرئيسية.

التحول من الواقع إلى التخيل

يمثل المقطع السردي “شعرت بظل طويل لولدين أو ثلاثة أولاد يترصدونها، داهمها إحساس بالخشية والتردد والندم…” نقطة تحول في البنية الادراكية للقصة، يحدث فيها تحول نطاقي، وهو الانتقال من نطاق إدراكي (الواقع الموضوعي) إلى نطاق آخر (الإدراك الذاتي المشوه) دون حدود فاصلة واضحة. تتجلى براعة الكاتب في اختيار الصياغة اللغوية الدقيقة “شعرت بظل” بدلاً من التعبير المباشر “رأت أولاداً”. هذا الاختيار اللغوي يؤسس لحالة من الغموض الإدراكي الذي يصعب معه تحديد ما إذا كان الأولاد موجودين فعلياً أم أنهم نتاج مخاوف الشخصية المتزايدة. إن الفعل “شعرت” يقع في المنطقة الوسطى بين الإدراك الحسي والانفعال الذاتي، ما يجعله أداة مثالية للتعبير عن هذه الحالة المترددة بين الواقع والتخيل.

يتحول السرد تدريجياً من وصف الأحداث الخارجية إلى تصوير الحالة النفسية الداخلية للشخصية. فالأوصاف “داهمها إحساس بالخشية والتردد والندم” تنقل القارئ من المشهد الخارجي (وجود الأولاد) إلى المشهد الداخلي (انفعالات الفتاة). هذا التحول يفرض على القارئ تفعيل آلية ادراكية هي سيناريو تداركي تشكيكي، حيث يعود القارئ لمراجعة المعلومات السابقة مع احتفاظه بالشك في صحتها أو دقتها.

يتعمق هذا التحول النطاقي في المقطع اللاحق: “كان أكبر منها وأطول قامة، له نظرة عميقة ركزت عليها على وجهها وقامتها، ثانية كرر ابتسامته لها، لكنها شاهدته يختفي في زاوية ما غير أن رفيقيه برزا من لا مكان ولوحا لها بيديهما وغابا أيضًا.” هنا يتناقض التفصيل الدقيق في وصف الولد (حجمه، نظرته، ابتسامته) مع الاختفاء المفاجئ الذي يكاد يكون سحرياً. إن عبارات مثل “يختفي في زاوية ما” و”برزا من لا مكان” و”غابا أيضاً” تنتمي إلى المعجم اللغوي للخيال والسحر أكثر من انتمائها إلى معجم الواقع الموضوعي. هذا التناقض في الادراك الحسي بين دقة الوصف وغرابة الحدث يخلق حالة من التنافر عند القارئ، ما يدفعه إلى ممارسة نوع أكثر عمقاً من التدارك الاستقصائي. في هذا النوع، لا يكتفي القارئ بإعادة تقييم المعلومات السابقة، بل يبدأ في البحث عن إشارات نصية إضافية تساعده في فض التناقض بين ما يبدو واقعيا سردياً وما يبدو متخيلاً.

وتكمن أهمية هذا التحول النطاقي في أنه يمثل نقطة انعطاف في مسار القصة، حيث تبدأ الشخصية (والقارئ معها) في الانزلاق التدريجي من عالم مستقر منطقياً إلى عالم متذبذب إدراكياً، انزلاق يتراوح بين الواقعي والمتخيل، ما يجعل القارئ في حالة مستمرة من التدارك لمحاولة تثبيت الإطار الإدراكي المناسب لفهم الأحداث. 

 تداخل الواقع والوهم

يمثل مقطع “والغريب أنها وهي وسط السوق شاهدت شابًا في عمر صاحبها يرمقها بنوع من الحنان مبتسمًا لها…” ذروة الإسقاط الادراكي، وهي العملية النفسية التي يقوم من خلالها الفرد بإسقاط توقعاته ورغباته وتصوراته الداخلية على المعطيات الخارجية، فيدرك الواقع ليس كما هو بل كما يتمنى أن يكون.

تكتسب هذه الظاهرة أهمية في سياق القصة عبر استخدام تقنية الوصف التدريجي المتصاعد. فالكاتب يبدأ بوصف محايد نسبيًا “شاهدت شابًا في عمر صاحبها”، ثم ينتقل إلى وصف أكثر ذاتية “يرمقها بنوع من الحنان مبتسمًا لها”، وصولاً إلى التوكيد القاطع “هو بدمه ولحمه لا يمكن لعينيها تخطئانه”. هذا التدرج في يقينية الوصف يعكس عملية الإسقاط في تطورها، حيث تتحول الملاحظة الموضوعية (وجود شاب) إلى استنتاج ذاتي (أنه صاحبها) بناءً على احتياجات نفسية داخلية.

يتجلى في هذا المقطع التوكيد المفرط، أي الإصرار اللغوي المبالغ فيه على حقيقة أو موقف يكون موضع شك بطبيعته. فعبارة “هو بدمه ولحمه لا يمكن لعينيها تخطئانه” تمثل صيغة توكيدية مضاعفة: أولاً في التعبير المجازي “بدمه ولحمه” وثانياً في النفي المطلق “لا يمكن لعينيها تخطئانه”. هذا التوكيد المضاعف، يعمل كإشارة سيميائية للقارئ بضرورة تفعيل الشك والتساؤل.

يتعزز هذا التناقض بين الواقع والإسقاط في المقطع اللاحق: “لكن فتاها تقهقر وسط الزحام فقد أخذته موجة من البشر جعلته يختفي لحين، لكنها أصرت على متابعتها له للتأكد من وجوده”. هنا يظهر تناقض صريح بين الواقع الموضوعي (اختفاء الشاب) وإصرار الفتاة على متابعته “للتأكد من وجوده”. هذه الصياغة تكشف عن شك داخلي لدى الشخصية نفسها حول حقيقة ما رأت، لكنها تقاوم هذا الشك بمزيد من الإصرار والمتابعة. يُمثّل هذا المقطع منعطفًا إدراكيًا في القصة، ينتقل فيه القارئ من التصديق إلى التشكيك في مصداقية رؤية الشخصية للواقع، ما يفرض عليه اعتماد قراءة ثنائية المستوى: مستوى الأحداث ومستوى إدراك الشخصية لهذه الأحداث.

 الاعتراف الضمني بالوهم

يشكل مقطع “استاءت من عبارتها الأخيرة (خاطفة)، لكن أين رأت هذا المشهد الغريب؟” لحظة مفصلية في البنية السردية للقصة، إذ يمثل أول اعتراف ضمني من الشخصية بالطبيعة الوهمية لإدراكها. هذه اللحظة تجسد التناص الإدراكي الداخلي، وهي ظاهرة تتجلى حين تستدعي الشخصية نصوصاً أو تجارب سابقة من مخزونها المعرفي لتفسير تجربتها الحالية. تبدأ هذه اللحظة الميتا ادراكية بانزعاج الشخصية من استخدامها لكلمة “خاطفة”، ما يشير إلى وعيها بالدلالات المقلقة لهذه الكلمة. يعقب هذا الانزعاج تساؤل حول مصدر المشهد الذي تستحضره: “لكن أين رأت هذا المشهد الغريب؟”. هذا التساؤل يمثل لحظة تفصل فيها الشخصية بين إدراكها الحالي وبين مصادر معرفية سابقة، ما يسمح بظهور مستوى من الوعي النقدي بطبيعة هذا الإدراك. يكشف المقطع آلية ذهنية مزدوجة: فهو أولاً نافذة ميتا-إدراكية تظهر عمليات الشخصية الداخلية، وثانياً يبرز ظاهرة الاستعارة الإدراكية حيث تستدعي أنماطاً ادراكية سابقة (كالمشهد المقروء) لتفسير واقعها الحالي، ما يوضح محاولتها تنظيم إدراكها المضطرب عبر أطر مرجعية مألوفة.

يتعمق هذا البعد الميتا ادراكي في المقطع اللاحق: “ضحكت مع نفسها لما تذكرت أنها قرأت عن الولد المفقود والبحث الدؤوب عنه، في كتاب لعلها تتذكر عنوانه: (عن الأولين والآخرين) لكن كاتبه ما عادت تتذكر اسمه”. هنا تظهر سمة إضافية من سمات التناص الإدراكي الداخلي وهي الاستدعاء الناقص، فالشخصية تتذكر محتوى القصة وعنوان الكتاب، لكنها تفشل في تذكر اسم الكاتب، ما يؤشر الطبيعة الانتقائية والمتقطعة للذاكرة.

يؤدي هذا الاستدعاء الناقص وظيفة مزدوجة: فهو من جهة يعزز موثوقية الاعتراف الضمني بالوهم (إذ يتسم بالصدق في الإقرار بقيود الذاكرة)، ومن جهة أخرى يشكك في موثوقية الذاكرة ككل كمصدر للمعرفة. هذه المفارقة تدفع القارئ إلى تفعيل سيناريو تداركي شامل، لا يقتصر على مراجعة أحداث معينة، بل يمتد ليشمل إعادة تقييم كل المعلومات السابقة في ضوء احتمال عدم موثوقية الذاكرة والإدراك. يُشكّل هذا المقطع منعطفًا تأويليًا، اذ تُقدّم إشارة “الولد المفقود والبحث الدؤوب عنه ” مفتاحًا قرائيًا يعيد تشكيل الأحداث السابقة، محوّلةً البحث الظاهري عن لقاء إلى تعبير عن غياب وحنين. ويُمثّل المقطع ارتقاءً سردياً من مستوى الحكائي إلى الميتا سردي، محوّلاً تركيز القارئ من سؤال “ماذا حدث؟” إلى أسئلة نقدية حول آليات الإدراك وحدود المصداقية السردية.

ويكتمل التناص الإدراكي في البنية الدائرية للقصة، حيث تعود العبارة الختامية ” ما تفكر به هو توقع لازمها منذ صباح اليوم أنها ستلقاه ينتظرها مهما طال الوقت” إلى الورقة المذكورة في البداية، ما يكشف عن التناقض بين التوقعات الذاتية والواقع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *