منذ أن أخذت ملامح الدولة الحديثة بالتشكل في العراق، ظلّت علاقتها بالدين علاقة قلقة، كأنها رقصة طويلة على إيقاعٍ متوتر لا يعرف الانسجام. الدولة، وهي ابنة العصر الحديث، جاءت تحمل مشروعاً للاحتكار: احتكار التشريع، واحتكار العنف، واحتكار تعريف المجال العام. أما الدين، فكان حاضراً بقوة في البنية الاجتماعية والذهنية، لا يقبل أن يُختزل إلى ممارسة فردية أو طقس شعائري، بل يتطلّع لأن يبقى المرجع الأعلى في حياة الناس. ومن هذا التنازع تكوّنت أولى أزمات الوعي العراقي الحديث: هل تكون الدولة مظلة جامعة لكل المواطنين بقانون وضعي؟ أم تبقى أسيرة لسلطة المرجعيات التقليدية التي ترى نفسها الحَكَم النهائي في شؤون الحياة؟
الدولة والدين: تنازع الشرعية وتصدّع الهوية
في هذه المسافة بين الدولة والدين ظهرت الحركات الإسلامية في خمسينيات القرن الماضي، وفي مقدمتها حزب الدعوة. لم يكتف الحزب بخطاب وعظي أو دعوي، بل نظر إلى الدولة باعتبارها الأفق الأعلى لمشروعه. أراد أن يؤسس “دولة إسلامية” تُترجم الشريعة إلى قوانين، وتجعل الجهاز البيروقراطي أداة طيّعة في يد العقيدة. بدا هذا الحلم في بداياته ممكناً، لكنه ما لبث أن اصطدم بصلابة الدولة الحديثة، التي لا يمكن اختزالها إلى جهاز عقائدي، وبقسوة الأنظمة السياسية التي ضيّقت على الإسلاميين وأحبطت مشاريعهم. ومع مرور الوقت، ومع تعثر التجربة، أخذت الحركات الإسلامية تعود إلى نقطة البداية: المجتمع. لكنها لم تعد إليه بالأسلوب القديم، بل عبر منظمات وجمعيات مدنية، تركّز على أسلمة المجتمع باعتباره الطريق الذي لا بد منه للوصول إلى أسلمة الدولة في المستقبل.
وقد كان ميدان الأسرة، عبر قوانين الأحوال الشخصية، أوضح مسرحٍ لهذا الاشتباك. ففي عام 1959 أصدر العراق قانون الأحوال الشخصية الموحّد، بعد تجربة مشابهة في سوريا عام 1953. لم يكن هذا القانون مجرد تفصيل قانوني؛ لقد كان إعلاناً صريحاً بأن الدولة الحديثة ترى الأسرة شأناً عاماً، ينبغي أن يخضع لقانون موحد، لا لفتاوى متباينة تصدرها المرجعيات الدينية. ولأول مرة بات الزواج والطلاق والإرث والنفقة ضمن صلاحيات الدولة. هذا التحول أثار عاصفة من الجدل: فالمؤسسة الدينية رأت فيه اعتداءً على مجالها الأخير، بينما رأت الدولة أنها بذلك تمارس دورها الطبيعي كمنظّم للحياة العامة. ومنذ ذلك الحين، ظل قانون الأحوال الشخصية نقطة مواجهة متجددة؛ فما إن تضعف سلطة الدولة أو يتغير النظام حتى تعود المؤسسة الدينية لتطالب باستعادته إلى حوزتها. وهكذا كشف القانون، على نحوٍ لا لبس فيه، أن الصراع لم يكن بين نصوص دينية وأخرى وضعية، بل بين مرجعيتين تتنازعان الشرعية: مرجعية الدولة الحديثة ومرجعية المؤسسة الدينية.
تحولات الوعي الشيعي وبناء الهوية الوطنية
وفي موازاة هذا الاشتباك القانوني والسياسي، أخذت الهوية الشيعية في العراق تخوض مخاضاً صعباً. فمنذ بدايات القرن العشرين، وجدت النخب الشيعية نفسها أمام خيارين: خيار قومي أو وطني يحاول أن يجعل من التشيع جزءاً من هوية عراقية جامعة، وخيار ديني يسعى إلى تحويل الطائفة إلى كيانٍ متمايز قائم بذاته. وفي عقود لاحقة، خصوصاً مع صعود الإسلام السياسي وتراجع المشاريع الوطنية الجامعة، تغلّب الخيار الثاني، فباتت الطائفة تُبنى كهوية مكتملة، أشبه بأمة داخل الأمة. ساعد على ذلك دخول مفاهيم جديدة مثل “ولاية الفقيه”، التي لم تكن أصيلة في التقاليد الشيعية العراقية، لكنها دخلت بقوة مع النفوذ الإيراني. ومع مطلع التسعينيات، وللتصدي لهذا المسار، ظهر خطاب “الشيعة العرب” بوصفه محاولة لإعادة تعريف الانتماء الطائفي في إطار وطني، والقول إن التشيع في العراق عربي الجذور ولا يجوز أن يُختزل في سردية عابرة للحدود.
إن ما جرى هنا لم يكن مجرد جدل بين النخب، بل عملية إعادة تشكيل للوعي. فالطائفة، التي كانت مذهباً دينياً ضمن نسيج اجتماعي متنوع، صارت تُقدَّم ككيان سياسي مغلق، بحدود وخطاب وذاكرة خاصة. ومع كل تحوّل في هذا المسار كان الوعي الجمعي للعراقيين يتعرّض للاهتزاز: أيكون الانتماء الأول للدولة أم للطائفة؟ للوطن أم للعقيدة؟ هذه الأسئلة لم تجد جواباً حاسماً، بل ظلت تتنازع الوعي وتترك أثرها في كل أزمة لاحقة.
ثم جاءت لحظة 2003، لتفتح الصندوق الأسود العراقي على مصراعيه. انهار النظام، وتفجّرت الانقسامات، وتحوّل البلد إلى ساحة تتصارع فيها الطوائف والأحزاب والمصالح الدولية. صار العراق ميداناً مفتوحاً للتهجير والحروب الأهلية والتفكك الاجتماعي. في هذا السياق تعمّقت الأزمة: لم تعد المسألة مجرد جدل حول قانون أو صراع بين نخب، بل صارت مسألة بقاءٍ يوميّ. وأمام هذا المشهد المظلم، بدت الحاجة إلى المعرفة أشد من أي وقت مضى.
المعرفة هنا لم تعد ترفاً أكاديمياً أو شغلاً فردياً معزولًا. لقد صارت فعل مقاومة بحد ذاته. حين يعيد الباحث قراءة ثورة العشرين ويكشف أنها لم تكن ثورة طائفة بعينها بل حركة وطنية جامعة، فإنه يقاوم سرديات طائفية تحاول الاستحواذ على الماضي. وحين يدرس قانون الأحوال الشخصية بعيداً عن خطاب التسييس، فإنه يواجه محاولات مصادرة المجتمع وإعادته إلى أطر ماضوية. وحين يكتب المثقف عن الهوية الوطنية باعتبارها إطاراً جامعاً لا نقيضاً للهويات الجزئية، فإنه يفتح ثغرة في جدار الطائفية. هكذا تتحول المعرفة إلى مقاومة ناعمة، لا تعتمد على العنف ولا على الخطابة، بل على كشف الحقائق وإعادة ترتيبها، وعلى تقديم سرديات بديلة تتيح للوعي أن يتحرر من قبضات الإيديولوجيا.
والمعرفة، لكي تكون مقاومة حقاً، لا بد أن تنفتح على الجمهور العام. فالنشر في المجلات الأكاديمية المتخصصة يظل مهماً، لكنه يبقى بعيدًا عن الوعي اليومي للناس. الحاجة اليوم تملي إنتاج خطاب معرفي متنوع: محاضرات عامة، مقالات في الصحافة، منصات رقمية، برامج إذاعية وتلفزيونية، بل وحتى أنشطة ثقافية غير تقليدية. كل ذلك من أجل أن تغدو المعرفة جزءًا من نسيج المجتمع، لا حواراً داخلياً مغلقاً بين الباحثين وحدهم.
إن قراءة الوعي العراقي الحديث تكشف لنا أن الأزمات الكبرى، من صراع الدولة والدين، إلى جدل قوانين الأسرة، إلى تحولات الهوية، ليست حوادث منفصلة، بل حلقات في سلسلة واحدة. وكلها تشير إلى حقيقة أساسية: أن المعرفة قادرة على أن تكون مقاومة. مقاومة لا تعني الرفض الأعمى ولا المزايدة، بل النقد والتحليل والتفكيك وإعادة البناء. إنها مقاومة تفتح أفقاً آخر للعيش المشترك، وترفض أن تُختزل هوية العراقيين في طائفة أو مذهب أو مرجعية واحدة.
وهكذا، يصبح الرهان الحقيقي في العراق ليس فقط على السياسة ولا على الاقتصاد، بل على إنتاج معرفة قادرة أن تعيد للتاريخ تعدديته، وللحاضر معناه، وللمستقبل إمكاناته. إن الوعي العراقي الحديث، بكل ما فيه من تناقضات، يظل ساحة مفتوحة لهذا الصراع؛ صراع لا تحسمه البنادق ولا تحسمه صناديق الاقتراع وحدها، بل تحسمه أيضاً الكلمة والمعرفة والسردية. فالمعرفة، في نهاية المطاف، هي المقاومة الأكثر عمقاً ودواماً، لأنها تزرع في وعي الناس إمكاناً للحرية لا يمكن لأحد أن يصادره.