Search
Close this search box.

الومضة في شعر أحمد مطر

عندما نطالع النص نجده يتحدث عن صورة جثة ذات ملامح عربية، وهي صورة مألوفة لا تبعث على الدهشة، إلا إنَّ الضربة ...

هي صورة تحمل إحساساً شعرياً خاطفاً موجزة كالومضة غنية بالدلالة يصوغها المبدع بألفاظ قليلة ولكنها محمّلة بدلالات كثيرة تكشف عن صور دفينة تكمن خلف التشكيل اللفظي، ومن سماتها وحدة الموضوع والإيجاز، فضلاً عن خلوها من الاستهلال الذي كثيراً ما كان الشعراء يعمدون إليه في رسم قصائدهم، فصار لازمة من لوازم بناء هيكل القصيدة[1]. ومصطلح الومضة أو القفلة أو التوقيعة يمكن أن تكون عملية إحياء للقصائد القصار (المقطعات) التي عرفت في الشعر العربي القديم، ويفترق عنها بتلك الخاتمة المفاجئة التي تهز المتلقين فيكون لها أثر بالغ في النفوس، يعرفها عز الدين المناصرة بأنها «قصيدة قصيرة مكثفة، تتضمن حالة مفارقة شعرية إدهاشية، ولها ختام مدهش مفتوح أو قاطع أو حاسم… وتكون قصيدة توقيعة إذا التزمت الكثافة والمفارقة والومضة، والقفلة المتقنة المدهشة»[2] ، ويعرفها جابر عصفور على إنها أنموذج شعري جديد له تشكيله وصوره وإيقاعاته[3]، وسيلتزم البحث مصطلح الومضة دليلاً على القصيدة القصيرة. وجد الباحث أن قصيدة الومضة قد أخذت مساحة كبيرة من شعر أحمد مطر، مثلت ظاهرة أسلوبية واضحة ترتكز على خلق مفارقة من خلال خاتمة مفاجئة تمثل الفكرة التي يريد إيصالها إلى المتلقي. ومما تميز به شعر أحمد مطر إنه في بداية كل لافتة من لافتاته السبع يضع ومضة يستهل بها اللافتة، فتكون مدخلاً إلى اللافتة، ويبدو ان هذه الخاصية مقصودة تماماًن، إذ إنَّ عنوان الومضة ( المدخل ) في اللافتات كلها تدل على البداية والانطلاق والدخول، فاللافتة رقم (۱) يستهلها بومضة عنوانها مدخل (۱)، واللافتة رقم (۲) يبدؤها بومضة عنوانها البيان الأول (۲) ، واللافتة رقم (۳) تبدأ بالومضة الفاتحة ، والرابعة المبتدأ، والخامسة إلى من لا يهمه الأمر، والسادسة قبل أن تبدأ، والسابعة

المنطلق، فهذه الومضات الاستهلالية مثلت عنوان اللافتات أو قدمت صورة تعريفية عنها. ويعتمد أسلوب الومضة الشعرية لدى الشاعر على تقديم صورة مفارقية يحقق فيها أكبر قدر ممكن من التركيز والتكثيف، فتحدث تأثيراً جمالياً مركزاً ، مستعملاً أدوات تعبيرية قليلة تقوم على الطرفة وتُبنى على المفاجأة، استعملها الشاعر ليسلّط الضوء على زوايا مظلمة في الخيال، وعلى صور تثير الاهتمام وتفتح الذهن.

ومن استعمالات شعر أحمد مطر للومضة، إنه يستعملها سلاحاً في نزاعه ضد الحاكم الظالم بكثرة، فكانت أشبه بالرمح الدقيق، ومن ذلك قصيدة ( الحل ) التي يقول فيها (۱):

أنا لو كنتُ رئيساً عربياً

تحللت المشكلة

وأرحتُ الشعب مما أثقله أنا لو كنتُ رئيساً لَدَعَوتُ الرؤساء لألقيت خطاباً موجزاً

عما يعاني شعبنا منه

وعن سر العناء[4]

اللافتة هي إعلان سياسي رافض أو مؤيد يُخط على القماش ويُعلق في الشوارع، فهو – لهذا – لا يتسع للكلمات الكثيرة، بل مهارته تتمثل بالكلمات التي ( تلفت ) الانتباه بالإثارة أو التحريض أو كسب التأييد[5]

و

لقاطعتُ

جميع

الأسئلة

و قرأتُ البسملة

و عليهم وعلى نفسي قذفتُ القنبلة!

عندما يبدأ المتلقي بمطالعة النص يجد أنَّ فكرة القصيدة تبدو طبيعية في طرحها، وحين يصل إلى الخاتمة يجد نفسه قد صار ضحية لعملية خداع جميلة قام بها النص، فكسَرَ أفق توقعه بمراوغة الخطوط المستقيمة التي تربط بين الدال والمدلول، أو بين أسطر القصيدة وخاتمتها ، فأقام النص علاقة مفاجئة وغريبة لا تخطر على بال المتلقي في السطر الأخير ( وعليهم وعلى نفسي قذفت القنبلة!)، فتتبين ملامح صورة (الحل ) كما هو مُثبّت في عنوان القصيدة ومتنها، ليس في دعوة الرؤساء وإلقاء الخطابات التي تشرح الهم الشعبي، ولكن الحل يكمن في قتلِ هؤلاء الرؤساء جميعهم على وفق طريقة الشاعر الساخرة، وبهذا تتضح شعرية هذه الومضة في توترها الساخر، فهي على الرغم من مباشرتها، فإنَّ هذه المباشرة تتصاعد تدريجياً وصولاً إلى التكثيف الصوري في ضربة الخاتمة المفعمة بالدلالة.

وفي قصيدة أخرى في الموضوع نفسه ( سر المهنة )[6]، يقول :

اثنان في أوطاننا

يرتعدان خيفة من يقظة النائم

اللص.

والحاكم !

عمل النص الشعري مفارقة انتقادية من خلال صورة الحاكم الذي يتساوى مع اللص في خوفهما، فاللص يخاف من يقظة صاحب الدار ، والحاكم يخاف من الثورة ضدّه.

تبدو البساطة واضحة في هذا النص، إلا إنها بساطة مدروسة تنطوي على إيحاءات وتمتلك أقصى

كثافة ممكنة ممتلئة بالصورة دون الحاجة إلى إضافات.

وفي ومضة أخرى يسخر فيها من الحاكم، يقول[7] :

رئيسنا كان صغيراً وانفقد

فانتابَ أُمَّهُ الكمد

وانطلقت ذاهلة تبحث في كل البلد قيل لها : لا تجزعي

فلن يظل للأبد

إن كان مفقودكِ هذا طاهرا

وابن حلال.. فسيلقاه أحد صاحت : إذن.. ضاع الولد!

هذا النص المكثف يلقي الضوء على صورة ساخرة من الحاكم، يمثل مقطوعة شعرية ترتكز إلى لغة بسيطة لكنها محمّلة بدلالات تستفز المتلقي، فضلاً عن دور المفاجأة التي أحدثتها الخاتمة ( ضاع الولد )، إذ مثلت هذه القفلة المدهشة دفقة وجدانية هزّت المتلقي، وأحيت صوراً مسكوتاً عنها. وقد يستعمل الشاعر ومضاته للتذكير بحال العروبة والإنسان العربي، وما آل إليه حالهما في ظل الحاكم الجائر، ومن ذلك قوله في قصيدة ( طبيعة صامتة) [8]:

في مقلب القمامة

رأيتُ جثةً لها ملامح الأعراب

تجمعت من حولها النسور والدباب وفوقها علامة تقول: هذي جيفة

كانت تُسمّى سابقاً.. كرامة

عندما نطالع النص نجده يتحدث عن صورة جثة ذات ملامح عربية، وهي صورة مألوفة لا تبعث على الدهشة، إلا إنَّ الضربة تأتي في نهاية السطر الأخير لتشكل ختاماً مدهشاً وحاسماً عندما نعرف أنَّ النص قام بمراوغة جميلة، إذ جعلنا نعتقد أننا أمام صورة مألوفة، ثُمَّ نُفاجأ بصورة مبتكرة عن واقع الكرامة العربية ومن الومضات ذات الصلة بالموضوع، فتصور حال العرب والعروبة قصيدة (مشائمة)(۱) التي يقول فيها:

قال الصبي للحمار : ( يا غبي)

قال الحمار للصبي:

( يا عربي )!

إننا أمام نص يرتكز إلى لغة بسيطة ومكثفة جداً تحمل مفارقة قد تدفع بالمتلقي إلى حد (التفجير العاطفي ) [9]من خلال الخاتمة التي جاءت لتهز مشاعر المتلقي هزّاً عنيفاً بتسليطها الضوء على صورة مبتكرة ساخرة للغاية من الإنسان العربي.

وفي قصيدة ( انتساب ) نجد أنَّ الفكرة تركّزت في السطر الأخير منها، فجاءت على شكل ضربة مفاجئة انطوت على مفارقة كبيرة ، والمفارقة كما هو معلوم هي ! لعبة لغوية بين صانع المفارقة ومتلقيها، فيقدم صانع المفارقة النص بطريقة تستثير المتلقي وتدعوه إلى البحث عن المعنى الخفي للنص[10]، فيقول[11]:

ومن الومضات التي تصوّر الحاكم بطريقة ساخرة، يُنظر في المجموعة الكاملة على سبيل المثال الصفحات

. ( ٤١٢ ، ۳۷۷ ، ۳۶۱ ، ۳۳۶ ، ۲۷۹ ،۲۲۰ ، ۱۷۱، ٨٦،  ، ٧٣ ، ٥٠، ٢٥)

بعدما طاردة الكلب وأضناه التعب

وقف القط على الحائط مفتول الشنب

قال للفأرة : أجدادي أسود

قالت الفارةُ:

هل أنتم عرب ؟!

فعبر النص من خلال الصورة عن الحالة المزرية للعرب بطريقة ساخرة تبعث على الدهشة لفرط

غرابتها، إذ إنَّ التعبير الذي يختفي وراء الصورة، هو أكثر جمالية وتأثيراً من التعبير المباشر (۱). و من استعمالات الشاعر للومضة، انه يوظفها لتنبيه المتلقي إلى فكرة قد تكون بعيدة عنه، فيأتي النص ممتلكاً أقصى كثافة ممكنة ممتلئاً بالفكرة أو الصورة التي تهز خيال المتلقي بغرابتها، فغالباً ما يجد المتلقي نفسه قد خُدِع؛ إذ يعتقد انه قد عرف معنى الصورة، فإذا به يجد نفسه أمام مفارقة تصويرية تجعله بعيداً كل البعد عن قصد الشاعر ، فالمعنى المُراد مغاير تماماً لما فهمه، وهي لعبة ذكية يمارسها الشاعر في مواضع كثيرة من شعره، ومن ذلك قوله في قصيدة ( خَلْق )(۲) :

في الأرض مخلوقان :

إنست.. وأمريكان

إنَّ النص عندما ينقض توقعات القارئ فإنه قد استطاع تحويل أفقه وتوجيهه إلى ناحية أخرى لم تخطر له على بال ، وبهذا (( يتحقق دور النص الذي لا يسعى إلى تثبيت الأفق، وإنما إلى خرقه ))(۳)، وهذا ما فعله الشاعر بالضبط في ومضته هذه، فالمتلقي يتوقع أن يقول إنس وجان كما هو معروف، إلا إنَّ النص كسَرَ أفق توقعه بتغيير ( الجان ) إلى (الأمريكان ) ، وهي صورة تمثل حالة من الاستفزاز قد تترك أثراً في نفس المتلقي، فهذا التغيير الحاصل حوّل لغة الشاعر إلى لغة إبداع وجمال من خلال عنصر المفارقة الذي ختم به ومضته.

وفي الموضوع نفسه، يقول الشاعر في قصيدة ( قبل أن نبدأ )(۱):

الفردُ في بلادنا

مواطن.. أو سلطان

ليس لدينا إنسان!

يشكل السطر الأخير صدمة عنيفة لدى المتلقي، فهو ليس نهاية الومضة فحسب، بل هو بؤرة الفكرة التي تدور حولها القصيدة، فالسطر الأول والثاني ليس فيهما ما يثير الانتباه، فالفرد أما أن يكون مواطناً أو صاحب سلطة، هكذا هو الحال دائماً، ثُمَّ تأتي المفاجأة خاطفة وسريعة في السطر الثالث ( ليس لدينا إنسان) لتسلط الضوء على صورة ( المواطن)، فهو لا يشبه الإنسان، بل هو المعادل الموضوعي للعبد الذي لا يتمتع بأدنى حقوق المواطنة، ولا يُعامل بإنسانية، فأفرغ لفظة ( المواطن من محتواها من خلال الصورة الإيحائية الموجزة التي لم تأتِ إلا لتدل على براعة في استعمال اللغة للتنبيه إلى فكرة يراد إيصالها.

وفي قصيدة أخرى ( إضاءة ) يقول الشاعر (۲) :

يخيمُ الصباح..

فأرفع الستار عن نافذتي

وأشعلُ المصباح!

عندما نتلقى لفظة ( يخيم ) تتبادر إلى الذهن فوراً لفظة ( الظلام )، إذ إنَّ الكلمات أحياناً تتساوق بتوليد ترابط بين وحدتين معجميتين منفصلتين على سبيل المصاحبة (۱) ، ومن أمثلة المصاحبة أو التراصف ما يقوم بين كلمتي النباح والكلب، وكلمتي فاسد والبيض، وهكذا (۲).

وعندما نطالع النص الذي أمامنا نجد أنَّ الفعل ( يخيّم ( يستدعي أن يأتي بعده الفاعل (الظلام)، إلا إنه كسر هذه العلاقة المعجمية باستبدال الفاعل وجعله ( الصباح ) وهو أمر يبعث على تساؤل المتلقي وشدّه إلى النص، لينتهي إلى الخاتمة التي حملت مفارقة كبيرة بقوله ( وأشعلُ المصباح )، إذ إنَّ الذي يرفع ستار نافذته يطفئ المصباح عادةً وليس العكس، فتتبين ملامح الصورة التي أراد الشاعر أن يلقي الضوء عليها والتنبيه على الفكرة التي يريد إيصالها، وهي إنَّ الصباح يتساوى مع الليل في الظلام الحالك كناية عن البؤس والشقاء وانعدام الأمل من تغيير الواقع.

[1] ينظر : الشعر والشعراء – ابن قتيبة الدينوري ٧٤-٧٥

[2] شعرية التوقيعة في شعر عز الدين المناصرة : حنفاوي بعلي – ٤١٣

[3] ينظر : التوقيعة : جابر عصفور – ٥٩

[4] المجموعة الكاملة : ٦

[5] حدائق الشعر الاسلامي المعاصر : شلتاغ عبود – ص ۵۱

[6] المجموعة الكاملة : ١٥٧

[7] المصدر نفسه : ۳۷۲

[8] المجموعة الكاملة : ٧

[9] ينظر : قضايا الشعر المعاصر – ١٦٥

[10] ينظر : المفارقة – نبيلة ابراهيم – ۱۳۲

[11] المجموعة الكاملة : ٤٢٤

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *